السعي , وما بات وليس له من شغل شاغل سواها , ولا ذكر إلاّ ذكراها. . . أيها الإنسان الذي غرّه من الدنيا زخرُفها , وأطمعته أمانيُّها , واستغوته زينتها وطلاوتها , وانطلى عليهِ محالها. أصخ السمع , وعِ القلب , إلى وصف حال الدنيا وسيرتها مع أهلها ولا أظنك بمصغٍ ولا بواع! أيها الإنسان إن الدنيا كما جاء وصفها في القرآن المجيد ولا أبلغ من ذلك الوصف شيء كما أنزلناه من السماء , فاختلط بهِ نبات الأرض , فأصبح هشيماً تذروه الرياح؛ وكان الله على كل شيء مقتدراً بينما تراها مقبلةً عليك بنضرتها , وبهجتها , ليس لها بعل غيرك , ولا دار سوى منزلك , ولا نظرة إلاّ إليك , تراها بأسرع من لمح البصر قطعتك الوداد , ومنحتك الصد والبعاد , فانقلب سرورك حزناً , وحلو عيشك مراً , وصفو شرابك رنقاً كدراً , وتركتك وحيداً فريداً , في مفازة من ضنك العيش , ووحشة الفقر , لا مؤنس لك ولا متوجّع , ولا ناصر لك ولا معين , كمن جاءه الموج من كل مكان , جفاك بجفائها الأصحاب , وأنكرك
الأقارب والأباعد والأهل والجيران. وصارت كل خلة كانت لك في الغنى مدحاً ذماً. فأضحى الذي يوّد أن تكون لك حاجة عنده , فيتقرب إليك بها وبتشرف بقضائها يتشاغل عن ردِّ سلامك إذا ما سلمتَ عليهِ لا لشيء هناك بل وفاءً منك بالودّ له! فهو يترك واجباً ويفعل محرماً , حذراً من أن تقول له قد بتُّ البارحة أنا وزوجي لنا سوى الماءِ والهواء , فهل لك أن تكرم عزيز قوم ذلّ , وشريفاً حسبه الجاهلون غنياً من التعفف؟ وأمسى الذي يوسط الواسطات إلى الحضور بين يديك أكره شيء في عينه النظر إلى وجهك. ولو في ليل ادلهمَّت دياجيره , كأنما ينظر إليك بعينين غير عينيهِ الأوليين.