وبات الذي كان يفتخر بمجالستك , ومنادمتك في سفرك ومحاضرتك يستنكف من جلوسك إلى جنبهِ , ولو في قفز من الأرض لا رائح فيهِ ولا غاد. وعاد الذي كان يسعى في حسن خدمتك من قبل , أقبح شيء يراه حسن خدمتك له , فتراه يتأمر عليك , ويتذمر منك , ويحكم فيك حكم السادة على العبيد , ولا يرى حقاً لنعمتك التي أسبغتها عليهِ فيما مضى كأن لم تكن شيئاً مذكوراً! وراح الذي كان يتبرّك بلباس ثوبك الخلق , يفرّ منك فرار السليم من الأجرب وصار الذي كان يستنجدك في الملمات , ويلجأ إليك في المهمّات , يتربص لك الدوائر وينصب لك المكايد , ويؤلّب عليك إذا استنجدته في الخلاص من ورطة وقعت فيها , فإذا الذي يستنصرك بالأمس يستصرخك. أيها الإنسان الذي غرّه من الدنيا ظواهرها , وخفيت عليهِ بواطنها , فقام لها على قدم وساق , وشمّر لها عن ساعد الجد والاجتهاد , وأحبَّها حباً أعشى بصره عن مساوئها , وأعمه قلبه , وخامر عقله ولّبه , حتى استحوذ عليهِ شيطانها , وأخذت مجامع قلبه شهواتها. ويا أيها الإنسان الذي يتفانى في حبّ الدنيا ولا يلهج إلاَّ بذكرها , ولا ينشد إلاّ ضالتها , ولا يعرف إلاّ إياها , ولا ينظر إلى سواها , هلاّ اعتبرتَ بما عاملتْ بهِ تلك الدنيا آباءَك المتقدمين , وأجدادك السالفين , أهل القرون الأولى والقوم الجبارين؟ فكم أفنت من دول , وكم أبادت من الملوك الأُول , أرباب السطوة والسلطان , والأسرّة والتيجان , الذين عمروا فيها عمر نوح , وملكوا ملك سليمان , وبنوا بناء الاسكندر , وطغوا طغوّ قارون , وصالوا صولة النمرود , وحكموا حكم القياصرة , وعاشوا عيش الأكاسرة:
أين أين الملوك أين الرعايا ... أين أين القوّاد للأجنادِ
أين أين البناةُ أين المباني ... أين من شيّدوا كذات العمادِ