يظهر على الدوام خُلق الأمة حتى وسلطان الدين في منتهى شدته فتراه في الصبغة التي أنصبغ بها الدين عند الأمة التي اعتنقتهُ , وفي المظاهر التي تنشأ عنهُ. انظرْ إلى الفرق العظيم بين المعتقَد الواحد في انكلترا واسبانيا وفرنسا تجد أنهُ كان من المستحيل ظهور البروتستنتية في اسبانيا أو رضي انكلترا بإقامة الاضطهاد محكمة التعذيب بين ربوعها؛ ل تأمل حال الأمم التي دانت بالبروتستنتية تظهر لك أخلاقها الأساسية الأولى بادية عليها , وأنها بالرغم من افتتانها بمعتقداتها , لا تزال محتفظة بميزاتِ مزاجها العقلي , أعني الاستقلالَ ومضاءَ العزيمة وتدبّرَ الأمور قبل الأخذ بها وإباءَ الخنوع والاستذلالَ لسيّد يصدر في أمره عن الهوى. يتولّد تاريخ الأمم السياسي والأدبي والفّني من معتقداتها؛ إلاّ أن هذه كما تؤثر في الخُلق تتأثر أيضاًَ بهِ. فمفاتيح حياة الأمة خلقها ودينُها. والأول دائم من حيث صفاته الأولى , وعدمُ تغيره هو السبب في حدة تاريخ كل أمة واطراده. أما المعتقدات فقابلة للتغير. وتغييرُها هو السبب في أنَّ التاريخَ يحكي كثيراً من الانقلابات في الأمم. اليوم تميل الأمم القديمة على السقوط. فهي تهتزّ من الوهن , ونظاماتها تتداعى واحداً إثر واحد. وعلة ذلك فقدانها كل يوم شيئاً من إيمانها الذي قامت عليهِ حتى الآن. فإذا فقدتهُ كله قامت حتماً مقامهُ حضارةٌ جديدة مؤسسة على معتقد جديد. لأن التاريخ يدلنا على أن الأمم لا تحيا طويلاً بعد اختفاء معبوداتها , وأنَّ الحضارات التي جاءَت مع تلك المعبودات تذهب بذهابها. ألا لا شيءَ أفعل في التخريب من أثرٍ معبودٍ يموت.