الحياة من غضاضة ومَضض , وخلقوا جناتِ النعيم فنيطَ بها الرجاء وتوالت الأحلام. وإذا رجعنا على الجهة السياسية علمنا أيضاً كيف كان تأثيرُ المعتقداتِ شديداً. والسببُ في قوة الدين العظيمة كونهُ العاملَ الوحيدَ الذي تتوحَّد بهِ وقتاً ما منافع الأمة ومشاعرها وأفكارها. فيقوم المبدأ الديني بذلك دفعة واحدة مقامَ غيره من العناصر التي يتكوَّن منها روحُ الأمة والتي لا تنتج هذه النتيجة إلاّ إذا أربت وتمَّ نضجها بالوراثة. نعم لا يتغير مزاج الأمة العقلي بمجرَّد استيلاء دين على قلبها؛ غير أنَّ جميع القوى تتَّجه نحو غاية واحدة هي الانتصار للمعتقد الجديد , وفي ذلك سرّ قوتها العظمى. لذلك تجد أن قيام الأمم بأعظم الأعمال كان في عصر هذا التطوُّر الوقتي أعنى عصرَ تديّنها , وتأسيس أكبر الممالك لتي أدهشت العالم كان في عصر تدينها. كذا اتحدت بعض قبائل العرب بفكرة محمد صلى الله عليهِ وسلم فاستطاعوا قهر أمم كانت لا تعرف منهم حتى الأسماء. وشادوا تلك الدولة الكُبرى. وعليهِ يتضح أنهُ كان للدّين شأن كبير في سياسة المم لأنهُ هو العامل الوحيد سريعُ التأثير في أخلاقها. نعم أن الآلهة ليسوا خالدين , ولكنَّ المبدأ الديني باقٍ لا يزول. يغفي زماناً , ثم ينشط متى ظهر ربّ جديد. وهو الذي استطاعت بهِ فرنسا وحدَها منذ قرن أن تقاوم أوروبا كلها. فعرف البشر مرَّة أخرى درجة تأثير المعتقدات الدينية. لأن الأفكار التي امتلكت العقول في
ذلك العصر كانت في الحقيقة ديناً جديداً نفخَ في الأمة من روحهِ فأنعشها. لكنَّ الآلهة التي برزت من خلال تلك المعتقدات كانت لطيفة المادة فلم تدم إلاَّ قليلاً؛ على أن سلطانها , مدَة وجودها , كان سلطاناً كبيراً. بعد ذلك نقول أن قدرة الديانات على تغيير روح الأمم قدرة فانية. فقلما تدوم المعتقدات على قوَّتها الأولى زمناً يكفي لتغيير الخلق تغييراً تاماً. سببهُ أنَّ قوَّة الأحلام لا تلبثُ أن تفتر ويرجع المأخوذُ بسكرتها بعض الرجوع إلى اليقظة فتظهر حقيقة الخلق العتيق.