الأمم التي تقدمتها بفعل هذه النواميس نفسها. ولقد بلغت الأمة التركية هذا المبلغ من الرقي والنهوض , ولغتها في الحضيض , لا شعر , ولا بيان , ولا آداب سامية , فكأن تلك الحروب والفتوحات جرفت الأمة كلها في سيرها إلى الموت والفناءِ. إلا أن الباحث المدقق يجد أن الأمة التركية كانت كلها منذ بدءِ الفتح تشغل مناصب السيادة الملكية والعسكرية فلا تعرّض مقاتل أفرادها على الهلاك إلاّ على قَدَر. وما كان أولئك الذين فتحوا الديار وهاجموا الأسوار إلا أبناءُ هؤلاء الأسرى الذين سقطوا في حروبهم مع الترك بين أيديهم فاعتنقوا الإسلام ووقفوا أجسامهم على خدمة الحرب , فسار
أبناؤهم على آثارهم إلى أن اضمحلت أجواق الانكشارية التي قادت أعلامها خافقة إلى النصر في كل مكان فكان في استطاعة الترك في أيام عز دولتهم أحياءُ بيان لغتها وضربها على أعناق الدهر خالدةً خلود جميع اللغات التي تقدمتها والتي جاءَت وستجيءُ بعدها. غير أنه لم يكن شيءٌ من ذلك. فلقد مالت شمس عظمة تلك الدولة إلى الأفوال والغروب وشمس نهضة لغتها لم تبزغ بعد؛ وهذا الحادث الغريب , الشاذّ , من أغرب الحوادث التي يسطرها التاريخ في صحائفه لأبنائه الآتين. بدأت نهضة اللغة التركية الحديثة منذ خمسين سنة مضت فأخذت ترتقي وتنمو برغم الحوائل التي حالت دون نموّها في الثلاثين سنة التي مرَّت بها من حكم عبد الحميد. فكتب أدباؤها , وترجموا جلّ مؤلفات كتّاب الغرب وعلمائهم في العلوم والفنون , والشعر والأدب. وساعدهم على ذلك وجود حكومةٍ لهم منهم تمدّهم بعضدها , ومدارس في كل نوع من أنواع العلوم. في العلوم الحربية والبحرية , وفي التاريخ والحقوق والاقتصاد وعلوم التجارة والزراعة , فامتلأت مكاتبهم بآثارهم وأخذت لغتهم في الزهو والإشراق , والحكومة في أحرج أدوار حياتها تنتقل من انكسار إلى انكسار , ولعلّ السبب في إقبالهم على النهوض بلغتهم في هذا الدور والعصر هو الانتفاع بها كسلاح لمقاومة الفناءِ. فاشتغلوا بإحياء اللغة لفوائدها