لا لذاتها , كما فعل غيرهم من الأمم. فقد انصرف العرب عن الاشتغال بالمُلك إلى الاشتغال بالأدب , وانصرف الترك إلى الاشتغال بالأدب , طمعاً باستبقاءِ المُالك. ولقد ماشيت اللغة التركية في فروق خمسة أعوام رأيتها فيها سائرة بقدم الجبّار إلى الانتشار والاعتزاز , فعمل لها أبناؤها في خمسة أعوام مثل ما عمل لها آباؤهم في خمسين سنة إن لم أقل أكثر. وكفاني دليلاً على اتساع الحركة الفكرية في الآستانة أن أقول أن عدد مطابعها بات أربعة أضعاف ما كان عليهِ منذ خمسة أعوام. وإن أجرة المرتّب التي كانت لا تتجاوز خمسة عشر غرشاً مرَّ عليها دور بلغت الستين غرشاً في اليوم. وقد رأى أدباءُ الترك أن لا مفرٌ لهم من إنشاءِ نادٍ يجمع شتاتهم , يشتغلون فيهِ بإيجاد الألفاظ ونحت المعاني وبعث اللغة , فانشأوا نادياً لهم أطلقوا عليهِ اسم فجر آتي لم يَخلُ من فائدة في نهوضهم فكان غرَّة مطلع ذلك الفجر. وعملوا مجدّين في ما أرادوه فكانت هذه الأعوام الخمسة التي مرَّت بهم سنوات بركة وإسعاد في اللغة فقط. وإذا نظرنا إلى كتَّاب اللغتين العربية والتركية في هذه السنوات الأخيرة نجد
الآخرين أغزرَ مادة , وأصحّ سنداً , وأقوى بياناً. ليس مَن ينكر نهضة الآداب العربية الكبرى منذ الربع الأخير من القرن الماضي إلى هذا اليوم؛ فلقد بلغت دولة الشعر والأدب فيها مبلغ أزمانها الراقية في أيام العرب الأولى الزاهرة , إلاّ أن الحركة العلمية وما يلحقها لا تزال ضعيفةً من كل وجه , فكتب التاريخ والعلوم قليلة لا تروي ظمأ الوارد , ونظام العمل على النهوض بها مفقود , فكم من كتاب ثمين بدأ ذووه بهِ وطووه. وهذه مجلدات دائرة المعارف وكتاب آثار الأدهار لا تزال تنتظر أناساً يكملون ما بدأ بهِ السلف الصالح. ففي مصر وسوريا والعراق حركة أدبية كبرى اليوم لا نظام لها ولا رابطة تربط ذويها , على أن حصولها سهل , وإحداثها غير بعيد المنال. وفي نظارة المعارف