ثمَّ صفر البخار مؤذناً في الرحيل وقطر العجلة الخصوصية التي تقلُّ رفات فقيد اللغة وقد كُسيت بأكاليل الزهر والريحان. وسارت وراءَها الأبصار والقلوب تشيعها من القطار إلى الباخرة ومن الباخرة على ثغر بيروت حيث يستقبلها أدباءُ سوريا كما ودَّعها أدباءُ مصر لتُضمّ هناك عظام إبراهيم إلى عظام أبيهِ ناصيف , وشقيقهِ , خليل في مدفنٍ واحد وقد كتبت عليهِ تلك الأبيات التي تصدق في الوالد والولد وهي من نظم الفقيد:
هذا مقامُ اليازجيِّ فقف بهِ ... وقُل السلامُ عليكَ يا علَمَ الهدى
حَرَمٌ تحجُّ إليهِ أربابُ الحجي ... أبداً وتدعو بالمراحمِ سَرمدا
هو مغربُ الشمسِ التي كم اطلعت ... في شرقِ آفاقِ البلاغة فرقَدا
فخرُ النصارى صاحبُ الغُرر التي ... ضرَبتْ على ذكرِ البديع وأحمدا
هذا عمادُ العلم مال بهِ القضا ... فأمال ركناً للعلوم مشيَّدا
أمسى تجاهَ البحر جانب تربةٍ ... هي مجمع البحرين أشرف محتدا
فعليك يا ناصيفُ خيرُ تحيةٍ ... طابت بذكرك حيثُ فاح مردّدا
لو أنصفتك النائبات لغيَّرت ... عاداتها ووقَتكَ حادثة الرَّدى
تتنزلُ الأملاكُ حولك بالرضي ... ويجودُ فوقك باكراً قطرُ الندى
وجميلُ حظّك في المماتِ برحمةٍ ... أرّخ وفضلكَ في الصحائف خُلّدا
هذا بعض ما يسمح لي المقام وقاراً بذكرهِ عن حفلة مساء يوم الأربعاء على محطة مصر. وقد زاد الموقف وقاراً وخشوعاً وجود أخت الفقيد السيدة وردة اليازجي الشاعرة المجيدة وهي متشحة بالسواد , مكسورة الفؤاد. نظرتُ إليها عن بعد محترماً حزنها , وراثياً
لمصائبها , ولم أتمالك من سكب دمعة عند منظر هذه الخنساء الجديدة.
حاصد