وفي غسق الليل الذي عقدت عزيمتها فيهِ على الانتحار , أخرجت من خزانة أثوابها قميصاُ طرّزتهُ بيدها على أن تقدّمهُ في الصباح هديةً إلى زوجها في عيد ميلادهِ وفتحت نافذة غرفتها في كمبوسزاره وهي بقميص النوم , وكان القمر في أتمّ لمعانهِ يتلألأ ضوءُهُ على صفحات البحر العجاج , والأمواج تتلاطم وتتكسرُ على الصخور فيسمع لها هديرٌ يطرق الأذن , وترسل في النفس بعض الرعدة والخوف. غير أن آسين لم ترتعد فرائضها ولم تنثنِ عن عزمها , بل تراجعت وقد وطنت النفس على اتخاذ رحب البحر قبراً , وأمواجهُ كفنا. ثم أغلقت النافذة واستدعت إليها بنتها الكبرى , وسلمت إليها حسابات المنزل وما معها من النقود وقالت لها:
- إني مريضة يا ابنتي , وقد بلغتِ أنتِ من العمر حدّاً يلزمكِ فيهِ أن تعلمي تدبير المنزل , فاستلمي الحسابات
ثمَّ قبلتها , واستدعت ولدها وابنتيها الأخريين وقبلتهم قبلة الوداع الذي لا لقاءِ بعدهُ. . .
وعند الساعة الحادية عشرة من ذلك الليل عادت إلى النافذة , وكان أهل المنزل نياماً؛ فألقت نظرةً ثانيةً على البحر وأمواجهِ؛ ثمَّ أسرعت إلى الباب , ففتحتهُ وانسلّت منهُ إلى الشاطئ حتى انتهت إلى مكانٍ يشرف على غورٍ عميق , فألقت بنفسها إليهِ. وكان زوجها قد سمع , وهو في مخدعهِ , رنة الجرس في باب المنزل عند بضع دقائق , ولم يسمع حركةً تدلُّ على دخول قادم , فنهض وتفقد الغرف , فلم يرَ زوجتهُ في غرفتها ولا في غيرها فانطلق إلى الشاطئ يبحثُ عنها , فلم يرَ لها أثراً.