للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تُنَسَّقُ الإِبَرُ في ورَقَتِها , وكلُّها من الطراز الضخم , إذا أقبل عليها الناظرُ من بعيد ظنَّها بعض الوحوش الضارية من أسدٍ ومرٍ وفهدٍ , فإذا دنا منها لم تزُل مهابتها من قلبه , ولكنه رأى الموت قد مدَّ عليها كفناً من أشّعة النهار وأنداءِ الليل ثم طبع عليها أصابعَهُ , فهي منقَّطة بنقط صفراء نحاسية , وخضراء طحلبيّة , على قشر عاتم صادئ , ومنها ما انكسرت له ساق , فانقلب على جانبهِ , ومنها ما أصابتهُ ضربة في شفتهِ , فانشقَّت والتوَت , ومنها ما أدلى بعنقهِ الطويل إلى التراب كأنه يعضُّهُ في أحشائهِ.

منظرُ موتٍ وخراب وعار. دنوت من هذه الأشياء وأنا أسيفٌ أُرسل النظرة إلى الغيب , فأرى بها أُمم الشرق كلَّها مجتمعة تدبُّ دبيب الحشرات لاصقةَ الجباه بالأرض من الضعف والجبن ودناءة المطالب , وأطلق الزفرة من صدري , فأؤبن بها مجداً عظيماً ملأ العالم زمناً , ثم دفنهُ ذووه في بعض زوايا التَّرك والإهمال , ووكلوا إلى الذين ابتلوا بهِ قديماً أمر البحث عنهُ وجلاءِ آثاره التي غالها الصدأُ وغشيها نبات النسيان , حتى نخرها إلى الصميم , واذرفْ العبرة فأبكي سماءَ انطوت طيَّ الجلباب , ونجوماً غارت في التراب , ومعالم عامرة صارت إلى تباب. ثم وضعتُ رجلي على عنق الكبير من تلك الضواري الجامدة , وأثقلتُ وطأتَها عليهِ وقلتُ: يا أيها الأسد جُعِلْتَ للزئير فاستنبحوك , وللافتراس فكّموك , وللوثب فقيّدوك؛ فلينسجِ العارُ عليهم مثل ما نسج على جلدك. فإذا نهشتك الأيام نهش الكلاب الشلو , فليشهد عليهم كلُّ

<<  <  ج: ص:  >  >>