بهم من لين الجانب ورقة الطبع وخفض الجناح وبشاشة الوجه ما لا يمكن المبالغة في إطرائه. . . وكأن حسن الخلق ورقة الطبع أمر مركوز في جميع أهل مصر، فإن لعامتهم أيضاً مخالقة ومجاملة. وكلهم فصيح اللهجة بين الكلام السريع والجواب، حلو المفاكهة والمطارحة. وكلهم يحب السماع واللهو، وغناؤهم أشجى ما يكون، فلا يمكن لمن ألفه أن يطرب بغيره، وكذلك آلاتهم فإنها تكاد تنطق عن العازف بها. ولهم في ضرب العود طرق وفنون تكاد تكون من المغيبات، غير أني أذم من غنائهم شيئاً واحداً، وهو تكرير لفظة واحدة من بيت أو موال مراراً متعددة حتى تفقد السامع لذة معنى الكلام. ولكن أكثر ما يكون ذلك من المتطفلين على الفن. بعكس ذلك طريقة أهل تونس فإن غناءهم أشبه بالترتيل، وهم يزعمون أنها كانت طريقة العرب في الأندلس. . .
أما دولة مصر إذ ذاك فإنها كانت في الذروة العليا من الأبهة والعز والفخر والكرم والمجد، فكان للمتسمين بخدمتها مرتب عظيم من المال والكسى والشحن مما لم يعهد في دولة غيرها. . .
ومع عظم ما كان يكسبه التجار وأصحاب الحرف، وما يناله أهل الوظائف من الرزق العميم كانت الأسعار في مصر رخيصة جداً. فلهذا كنت ترى الناس قصريهم وعميهم مقبلين على الشغل واللهو معاً. فالبساتين غاصة بأهل الخلاعة والقصوف، ومحال القهوة مجمع للأحباب، والأعراس مسموع فيها الغناء وآلات الطرب من كل طرف. والرجال يخطرون بالخز والديباج، والنساء ينؤون بما عليهن من الحلي، والخيل