لبثت طويلاً متصبراً، وربما كان لبوثي قصيراً وأنا لم أدر، حتى تلعلعت السماط وبان البدر وهو بعدوته يزري، ونظر إلي فألفاني كما عهدي مشوقاً متشوفاً إليه، ورأيته كما عرفته يتألق ضوء البشر من بين عارضيه.
عاد البدر إلى ما كان عليه وعدت. وسار في سمره وسرت.
وإني لأرتشف خمر السرور صراحاً من يد ذلك الموقف، وقد أطلقت للعواطف والشعور سراحاً، إذ بغيمة أشد من الأولى حقداً وأعظم منها سواداً دنت منه تناصبه العداء وتكلفه الجلاد.
هذا ومازالت جيوش الغيوم تارةً تتشتت تحت سهامه فتنخزل أمامه أو تجانبه، وطوراً تتألب عليه ثائرة متضامنة تواثبه، وهو يتنفس جيناً فيظهر للعيان في مظهر التعب الخاثر ثم ينساب في العجاج متوارياً وراء الغبار المتطاير وكلما ظن أنه ناجٍ أدركته غيمة رجعت به إلى الميدان قسراً فيعود إلى المدافعة عن نفسه مكرهاً مضطراً.
هكذا شاء القدر أن أتجرع الكأس بعد أن ترشفتها، وأكره النفس على الصبر بعد أن أطعمتها، حتى كان عبس الليل وقد غاب البدر تحت غيوم انحدرت عليه انحدار السيل، فلم ير غير فضاء داج ظلامه، وعمار موحشة أعلامه، انكفأت إلى مضجعي حزيناً كئيباً اسمع زفزفة الأوراق تتساقط من على الأشجار فكان لها هزة في النفس ورجفة في الفؤاد أطبقت عيني تحت ثقل اليأس وستر الانكسار. . .
أملي هو البدر والغيوم هي كوارث الدهر وظلمة الليل هي ظلمة القب. . .