إنه ليصعب على البعيدين عن روسيا الذين لا يعرفون من شؤونها غير ما يقرأون في المجلات والجرائد السياسية أن يتصوروا حالة الفلاح الروسي من حيث مذلته وانحطاطه وتألمه وصبره وقوته العظيمة. لذا أحب أن أظهر من أمرهم ما اختفى ومن أفكارهم ومبادئهم ما توصلت إليه.
إن حالة الفلاح الروسي من حيث ذله وتألمه عن علمها القاصي والداني مما تنشره الصحف لذا أصبح الكلام عليها من قبيل تحصيل الحاصل. أما اعتقاده ومبادئه فأراني مضطرة إلى ذكرها لأنها ما تزل مجهولة بسبب الضغط الشديد وتقييد الصحافة. يقول فلاحو روسيا بأن العدل الله يقضي على الكائنات كلها بالسعادة والسرور دون فارق بين غنيّ وفقير، ويبغي للجميع على السواء الوسائل الآيلة لتعزية قلوبهم. وإنه يحظر عليهم عمل الشر وظلم بعضهم البعض، فلا يغتصب أحدهم حق أخيه ولا يؤذيه في عمله بل يكون له عوناً فيدرأ عنه كل شر مفاجئ. وهذا الاعتقاد عام يشمل عموم الفلاحين في بلادنا وهو قديم ولكنه في هذه الأيام تجاوز حيز القول إلى حيز العمل فصاروا يؤيدونه بالفعل. وقد توسعوا به حتى قالوا أن إلهاً صالحاً براً حكيماً خلق الإنسان من العدم وخلق له الأرض ليعيش فيها آمناً. وما وجدت هذه السهول الواسعة والرياض الجميلة والإحراج والأنهار إلا ليتمتع بها كل فرد فيعمل في السهول على قدر طاقته فلا يعارضه في عمله معارض ولا يهضم حقه أحد فلهذا لا يرهبون الشغل، بل يصلون إناء الليل بأطراف النهار كادّين، مبتهجين بمرأى الطبيعة وعندهم رغبة شديدة في معرفة أحوالها وإظهار مكنوناتها.