المضارب والخيام، آكل الجشب، ولابس الخشن، في ثوبٍ من الخز يهز بكلامه قلب باريس، بل قلب أوروبا، كما يهز قلب العرب في شطر آسيا وشطر أفريقيا، ببيت من الشعر قد لا يناظره بمثله فيكتور هوغو، ولا يلاحقه شكسبير، ولا يدانيه دانتي.
أجل إنه ليطربني اليوم من بطل البادية، وربيب القفر، وفوقه في أم الحضارة، ناظراً إلى خليلته عبلة، وغانم يضع في فيه بلغة باريس، قوله بلغة بني عبس:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ... مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها ... لمعت كبارق ثغرك المبتسم
فيملي بهذا الشعر على أبطال الغرب كيف تكون الأبطال، ويملي على عشاقهم كيف تكون رجولة العشاق، بل يملي على كتابهم كيف يحلق الكاتب في سماء الخيال، حتى تكاد تتقطع دون الوصول إليه البصائر والأبصار.
وإذا أنشد قوله أغشى الوغى وأعف عن المغنم تمثل لعيني السامع إقدام الشجاع، ونزاهة الكريم، ومرؤة الجواد، وشهامة الغطريف. فلا تأنف باريس أن تعشق البدوي الأسود لفضائله، والفضيلة ملك الإنسانية كلها، فهي ليست بدوية ولا حضرية فأينما وجدت ملكت وسادت، وأينما أذيعت أكرمت وأجلت. وكرم الخلال وكرامة النفوس في أمة، تظهر وتبدو في لغتها وآدابها، وفي أناشيدها وأشعارها. فلا تعيبها نبرات لهجة، ولا مخارج حروف، مادامت الألفاظ وعاء للمعاني،