مضطرباً هائجاً في قفصه يروح ويجيء لا يستقر، وقد عاينته في مجيئه ورواحه ملازماً جانباً واحداً من قفصه، وناظراً صوباً واحداً لا يحيد عنه حدقة بصره، فاتجهت وجهته انظر فرأيت على زجاج النافذة المطبق، كنارياً آخر قد انشب مخالبهُ في الأفريز منه وتعلق، وناءى بجؤجؤه فارشاً جناحيه على الزجاج، وقد فتح منقاره يلهث تعباً مع اضطراب في الجسم واختلاج، وهو يحدُج إلي حيناً ويحدق إلى العصغور السجين حيناً، ويتبادل معه صدحات متقاطعة متداركة متواصلة مملوؤة حناناً وحنيناً. كأنها أُحاح مكروب مكدود، أو همهمة مصدور مفؤود، طال عليها العهد، ولم يقو على حبسها عن النفث بها منه جهد، فأرسلها رنيناً ثم أدركها نادماً وأراد إخفاءها أو ملاشاتها بين جوانحه فتراجعت مترددة في فيه مسممةً لها في قفص الضلوع منه هنيناً.
نظرت وسمعت فحرت في أمري، وبقيت لا أعي فعلاً آتيه ولا أدري، وفي هذا الحين وقف العصفور المحبوس بغتة وأرسل صوتاً ليس بالصدح المألوف، ولا بالتغريد المعروف، وإذا هو كرير صدرٍ مثقل بالغموم، وتأوه فؤاد مكلوم، زفر به صاحبه زفيراً، مد به النفس حيناً فكان شجياً مثيراً، ثم رمى به فإذا هو بقية روح كان الأمل قد حبسها عند حد التراقي، ودفع بها اليأس فغادرت صاحبها قتيل الاستبداد والاسترقاق
ملكتُ جسمه وحياته ولم أملك فؤاده وعواطفه وهو الحر الكريم فكنت قاتله