الْقَاعِدَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأَصْحَابِ فِي تَفْسِيرِ الْقِيَاسِ، وَالْأَقْرَبُ إِلَى كَلَامِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْقِيَاسَ نَوْعَانِ جَلِيٌّ وَغَيْرُهُ، وَأَمَّا الْجَلِيُّ، فَهُوَ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ مُوَافَقَةُ الْفَرْعِ لِلْأَصْلِ بِحَيْثُ يَنْتَفِي احْتِمَالُ مُفَارَقَتِهِمَا، أَوْ يَبْعُدُ، وَذَلِكَ كَظُهُورِ الْتِحَاقِ الضَّرْبِ بِالتَّأْفِيفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) وَمَا فَوْقَ الذَّرَّةِ بِالذَّرَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَمَنْ يَعْمَلُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) الْآيَةَ، وَ [مَا فَوْقَ] النَّقِيرِ بِالنَّقِيرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا) وَنَظَائِرِهِ، فَإِنَّ فُرُوعَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ أَوْلَى مِنَ الْأُصُولِ، وَبَعْضُ الْأَصْحَابِ لَا يُسَمِّي هَذَا قِيَاسًا، وَيَقُولُ: هَذِهِ الْإِلْحَاقَاتُ مَفْهُومَةٌ مِنَ النَّصِّ، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا إِلْحَاقُ الْعَمْيَاءِ بِالْعَوْرَاءِ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ وَسَائِرِ الْمَيْتَاتِ بِالْفَأْرَةِ، وَغَيْرِ السَّمْنِ بِالسَّمْنِ فِي حَدِيثِ (الْفَأْرَةُ تَقَعُ بِالسَّمْنِ إِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا) وَالْغَائِطِ بِالْبَوْلِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ» وَمِنَ الْجَلِيِّ مَا وَرَدَ النَّصُّ فِيهِ عَلَى الْعِلَّةِ كَحَدِيثِ «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ» وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ) وَأَمَّا غَيْرُ الْجَلِيِّ فَمَا لَا يُزِيلُ احْتِمَالَ الْمُفَارَقَةِ وَلَا يُبْعِدُهُ كُلَّ الْبُعْدِ، فَمِنْهُ مَا الْعِلَّةُ فِيهِ مُسْتَنْبَطَةٌ، كَقِيَاسِ الْأُرْزِ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الطُّعْمِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاصِّ: هُوَ مِنَ الْجَلِيِّ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، وَمِنْهُ قِيَاسُ الشَّبَهِ، وَهُوَ أَنْ يُشْبِهَ الْحَادِثَةَ أَصْلَيْنِ إِمَّا فِي الْأَوْصَافِ بِأَنْ يُشَارِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْأَصْلَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَعَانِي وَالْأَوْصَافِ الْمَوْجُودَةِ فِيهِ، وَإِمَّا فِي الْأَحْكَامِ كَالْعَبْدِ يُشَارِكُ الْحُرَّ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَالْمَالِ فِي بَعْضِهَا، فَيُلْحَقُ بِمَا الْمُشَارَكَةُ فِيهِ أَكْثَرُ، وَرُبَّمَا سُمِّيَ قِيَاسُ الشَّبَهِ خَفِيًّا وَالَّذِي قَبْلَهُ غَيْرُ الْجَلِيِّ وَاضِحًا، وَرُبَّمَا خُصَّ الْجَلِيُّ بِبَعْضِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ مَا كَانَ الْفَرْعُ فِيهِ أَوْلَى بِحُكْمِ الْأَصْلِ.
قُلْتُ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي صِحَّةِ قِيَاسِ الشَّبَهِ، وَأَنَّهُ هَلْ هُوَ حُجَّةٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute