الثَّالِثُ: حَكَى بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مَا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ سَمَاعُ الْقَاضِي، وَالدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ وَالْإِشْهَادُ، بَلِ الْمُرَادُ إِخْبَارُ عَدْلَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ كَلَامَهُ فِي «الْوَسِيطِ» يُوهِمُ أَنَّ إِلْحَاقَ الِاسْتِفَاضَةِ بِالْبَيِّنَةِ مُخْتَصٌّ بِالْمُكَاتَبِ وَالْغَارِمِ، وَلَكِنَّ الْوَجْهَ تَعْمِيمُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُطَالَبٍ بِالْبَيِّنَةِ مِنَ الْأَصْنَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي قَدْرِ الْمُعْطَى، فَالْمُكَاتَبُ وَالْغَارِمُ، يُعْطَيَانِ قَدْرَ دَيْنِهِمَا، فَإِنْ قَدَرَا عَلَى بَعْضِهِ، أُعْطِيَا الْبَاقِيَ. وَالْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ يُعْطَيَانِ مَا تَزُولُ بِهِ حَاجَتُهُمَا، وَتَحْصُلُ كِفَايَتُهُمَا.
وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ وَالنَّوَاحِي، فَالْمُحْتَرِفُ الَّذِي لَا يَجِدُ آلَةَ حِرْفَتِهِ، يُعْطَى مَا يَشْتَرِيهَا بِهِ قَلَّتْ قِيمَتُهَا، أَوْ كَثُرَتْ.
وَالتَّاجِرُ يُعْطَى رَأْسَ مَالٍ لِيَشْتَرِيَ مَا يُحْسِنُ التِّجَارَةَ فِيهِ، وَيَكُونُ قَدْرَ مَا يَفِي رَبِحُهُ بِكِفَايَتِهِ غَالِبًا، وَأَوْضَحُوهُ بِالْمِثَالِ فَقَالُوا: الْبَقْلِيُّ يَكْتَفِي بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ، وَالْبَاقِلَّانِيُّ بِعَشَرَةٍ، وَالْفَاكِهِيُّ بِعِشْرِينَ، وَالْخَبَّازُ بِخَمْسِينَ، وَالْبَقَّالُ بِمِائَةٍ، وَالْعَطَّارُ بِأَلْفٍ، وَالْبَزَّازُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَالصَّيْرَفِيُّ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، وَالْجَوْهَرِيُّ بِعَشَرَةِ آلَافٍ.
فَرْعٌ
مَنْ لَا يُحْسِنُ الْكَسْبَ بِحِرْفَةٍ وَلَا تِجَارَةٍ، قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ وَآخَرُونَ: يُعْطَى كِفَايَةَ الْعُمُرِ الْغَالِبِ. وَقَالَ آخَرُونَ، مِنْهُمُ الْغَزَالَيُّ وَالْبَغَوِيُّ: يُعْطَى كِفَايَةَ سَنَةٍ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَتَكَرَّرُ كُلَّ سَنَةٍ.
قُلْتُ: وَمِمَّنْ قَطَعَ بِالْمَسْأَلَةِ صَاحِبُ «التَّلْخِيصِ» ، وَالرَّافِعِيُّ فِي «الْمُحَرَّرِ» ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا قَالَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ نَصْرٌ الْمَقْدِسِيُّ عَنْ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، قَالَ: وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute