الصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحبه الكرام المنتجبين.
وبعد:
لقد عرف الأدب العربي نوعا من النثر الأدبي وهو السجع وهو الكلام المقفّى، أو موالاة الكلام على رويّ واحد، وقد تأثر كتّاب النثر المسجوع أولا بالقرآن الكريم، وخطب الجاهلية، كخطب أكثم بن صيفي حيث يقول:«أيها الناس: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت ... »، وهذا السجع له نغم عذب يحرك النفس ويثير الشوق إلى سماعه.
وكان أول ظهور هذا النوع الأدبي كفن قائم بذاته في القرن الثالث الهجري، في خطب الخلفاء وعمال الأقاليم، ثم تطور هذا الفن على أيدي كتاب محترفين كابن نباتة السعدي الذي توفي سنة ٣٧٤ هـ. كما تطور على أيدي كتّاب البلاط كإبراهيم بن هلال الصابي المتوفى سنة ٣٨٤ هـ، حتى أصبح النثر المسجوع أسلوبا مميزا وضروريا لدى الأدباء وكتاب الإنشاء. ومن رحم هذا الأسلوب ظهر فن جديد يدعى فن المقامات الذي يعود الفضل في ابتكاره وتأسيسه إلى بديع الزمان الهمذاني المتوفى سنة ٣٩٨ هـ.
والمقامة هي حكاية تقال في مقام معين وتشتمل على الكثير من درر اللغة وفرائد الأدب والحكم والأمثال والأشعار النادرة التي تدل على سعة اطلاع وغزارة مادة وطول باع وعلو مقام في عالم الأدب. وإذا كان بديع الزمان الهمذاني السباق والمبتكر والمبتدع لهذا الفن، فإن الأستاذ الرئيس أبي محمد القاسم بن علي الحريري هو الملك المتوج على رأس الكتاب الذين تخصصوا في المقامات، فهو بالمقارنة مع كل من كتب المقامات أغزر مادة وأكثر وأشد تعمقا في اللغة مما جعل لمقاماته منزلة خاصة جعلتها ربّما في منزلة تالية للقرآن الكريم والحديث الشريف، حتى إن أديبا عظيما كالزمخشري يقول: إن مقاماته حرية بأن تكتب بماء الذهب.
ويعزى السبب الذي من أجله وضع الحريري مقاماته، كما نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء ٤/ ٥٩٧، ٥٩٨: عن عبد الله بن محمد بن محمد بن أحمد النقور البزاز ببغداد، قال:
سمعت الرئيس أبا محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري صاحب المقامات يقول:
أبو زيد السروجي، كان شيخا شحاذا بليغا، ومحدثا فصيحا، ورد علينا البصرة، فوقف يوما في مسجد بني حران، فسلم ثم سأل الناس، وكان بعض الولاة حاضرا، والمسجد غاص بالفضلاء، فأعجبتهم فصاحته وحسن صياغة كلامه وملاحته، ثم ذكر أسر الروم ولده كما ذكرناه في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون.