أخبر الحارث بن همّام قال: ظعنت إلى دمياط، عام هياط ومياط؛ وأنا يومئذ مرموق الرّخاء، موموق الإخاء، أسحب مطارف الثّراء، وأجتلي معارف السّراء.
فرافقت صحبا قد شقّوا عصا الشّقاق، وارتضعوا أفاويق الوفاق؛ حتّى لاحوا كأسنان المشط في الاستواء، وكالنّفس الواحدة في التئام الأهواء. وكنّا مع ذلك نسير النّجاء، ولا نرحل إلّا كلّ هوجاء، وإذا نزلنا منزلا، أو وردنا منهلا، اختلسنا اللّبث، ولم نطل المكث، فعنّ لنا إعمال الرّكاب، في ليلة فتيّة الشّباب، غدافيّة الإهاب. فأسرينا إلى أن نضا اللّيل شبابه، وسلت الصّبح خضابه.
***
قوله:«ظعنت»، أي رحلت، والظعن ضدّ الإقامة.
دمياط: بلد بينه وبين مصر ثلاثون فرسخا، وهي على ساحل البحر الملح، وإلى دمياط ينتهي ماء النيل، فيفترق منها فيخرج بعضه إلى بحيرة تنّيس، وهي بحيرة تجري فيها السفن والمراكب العظام، ويخرج بعضه إلى البحر، وبها تعمل الشروب، وقد ذكرنا ذلك عند تنيس.
قوله:«هياط»: صياح، وتهايط القوم: اجتمعوا ودبّروا أمرهم. مياط: دفاع، أي كان عام هرج وخلاف. مرموق: منظور إليه، الرخاء: سعة المال موموق: محبوب.
أسحب: أجرّ. مطارف: ثياب لها أعلام في أطرافها أجتلى: أنظر. معارف: وجوه.
السرّاء: الغنى والسرور. رافقت: صحبت في السفر. والصّحب: الأصحاب الشّقاق:
الخلاف، ومعنى شقّوا عصاه، أزالوه وطرحوه، والعرب تقول: شقّ فلان العصا، إذا ترك الطاعة وخرج مباينا، قال أبو عبيد: العصا تضرب مثلا للاجتماع، وانشقاقها يضرب مثلا للافتراق الّذي لا اجتماع بعده. أفاويق: جمع أفواق، وأفواق جمع فواق، وهو ما بين الحلبتين والوفاق: ترك الخلاف، وقد وافقته موافقة ووفاقا.
قوله:«لاحوا» أي ظهروا. والعرب تضرب المثل بأسنان المشط، وهو يقع على كلّ استواء في أيّ حال كان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس كأسنان المشط، وإنما يتفاضلون