حدث الحارث بن همّام قال: عنيت مذ أحكمت تدبيري، وعرفت قبيلي من دبيري، بأن أصغي إلى العظات، وألغي الكلم المحفظات، لأتحلّى بمحاسن الأخلاق، وأتخلّى ممّا يسم بالأخلاق. وما زلت آخذ نفسي بهذا الأدب، وأخمد به جمرة الغضب؛ حتى صار التّطبّع فيه طباعا، والتّكلّف له هوى مطاعا.
عنيت، أي شغلت. أحكمت: أتقنت. قبيلي من دبيري، أي ما أقبل عليه من أمري وما أدبر عنه. ابن الأنباري: ما يعرف قبيلا من دبير، أي ما يعرف الإقبال من الإدبار، أي ما يعرف ما أقبل به من القبل إلى الصدر ممّا أدبر عنه. وقيل: معناه: ما يعرف الشاة المقابلة من المدابرة، والمقابلة التي شقّ أذنها إلى قدّام، والمدابرة التي شق أذنها من مؤخّرها، وترك ما قطع معلقا إلى خلف لا يبين.
أصغي: أميل. العظات: هي المواعظ. ألغي: أترك. الكلم: جمع كلمة المحفظات: المغضبات. أتحلّى: أتزين وأتصف. وأتخلى: أزول وأتفرغ، وتخليت من كذا: تركته. يسم: يجعل سمة. الإخلاق: العيوب وتمزيق العرض وأصله في الثوب.
أخمد: أسكن.
[الطبع والتطبّع]
والتطبّع له في الطبيعة أثر، وإن لم تذهب الطبيعة بالجملة، لأنه اتفقت العرب والعجم على قولهم: الطبع أملك. وكان ملك من ملوك الفرس، له وزير مجرّب حازم، فكان يعرف اليمن في مشورته، فهلك وقام ابنه بعده، فلم يرفع به رأسا، فذكر له مكانته من أبيه، قال: كان أبي يغلط فيه، وسأريكم ذلك فأحضره، وقال له: أيّهما أغلب على الرجل؟ الأدب أو الطبيعة؟ فقال: الطبيعة لأنها أصل والأدب فرع، وكلّ فرع يرجع إلى أصله. فدعا الملك بسفرة، فوضعت، وأقبلت سنانير بأيديها الشمع، فوقفت حول السفرة، فقال له: اعتبر خطأك وضعف مذهبك، متى كان أبو هذه السنانير شمّاعا؟ فقال له:
أمهلني في الجواب إلى الليلة المقبلة، فقال: لك ذلك، فخرج الوزير، وأمر غلامه أن يسوق له فأرة فساقها حيّة فربطها بخيط وعقدها في سينيّة. فلما راح إلى الملك وضعها