قال: واجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من فضلاء البصرة وعلمائها فحكيت لهم ما شاهدته من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وظرافة إشارته في تسهيل إيراده، فحكى كل واحد من جلسائه أنه شاهد من هذا السائل في مسجده مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنى آخر فصلا أحسن مما سمعت، وكان يغيّر في كل مسجد زيّه وشكله، ويظهر في فنون الحيلة فضله، فتعجبوا من جريانه في ميدانه، وتصرفه في تلوّنه وإحسانه، فأنشأت المقامة الحرامية ثم بنيت عليها سائر المقامات، وكانت أول شيء صنعته.
قال المؤلف: وذكر ابن الجوزي في تاريخه مثل هذه الحكاية، وزاد فيها أن الحريري عرض المقامة الحرامية على أنوشروان بن خالد وزير السلطان فاستحسنها وأمره أن يضيف إليها ما يشاكلها، فأتمها خمسين مقامة.
وقد اشتملت مقامات الحريري على فوائد جمة عدّدها هو بقوله في تقديمه:
وأنشأت على ما أعانيه من قريحة جامدة وفطنة خالدة وروية ناضبة وهموم ناصبة، خمسين مقامة تحتوي على جد القول وهزله ورقيق لفظه وجزله، وغرر البيان ودرره وملح الأدب ونوادره إلى ما وشحتها به من الآيات ومحاسن الكنايات، ورصعته فيها من الأمثال العربية واللطائفالأدبية والأحاجي النحوية والفتاوى اللغوية والرسائل المبتكرة والخطب المحبّرة، والمواعظ المبكية والأضاحيك الملهية، مما أمليت جميعه على لسان أبي زيد السروجي وأسندت روايته إلى الحارث بن همام البصري، وما قصدت بالإحماض فيه إلا تنشيط قارئيه وتكثير سواد طالبيه، ولم أودعه من الأشعار الأجنبية إلا بيتين فذين أسست عليهما بنية المقامة الحلوانية، وآخرين توأمين ضمنتهما خواتم المقامة الكرجية، ما عدا ذلك فخاطري أبو عذره ومقتضب حلوه ومرّه.
[شرح المقامات]
لقد حظيت مقامات الحريري بكمّ كبير من الشروحات والتعليقات، أحصى منها صاحب كشف الظنون حاجي خليفة أكثر من خمسة وثلاثين شرحا، ويعود كثرة الشروحات إلى ما زخرت به المقامات من الألفاظ، والأمثال، والأحاجي والألغاز والنكت النحوية والبلاغية، مما جعلها ميدانا رحبا للشرح والتفسير والاستطراد.
ويعتبر هذا الشرح الذي بين أيدينا من أهم الشروحات وأغزرها، وقد وضعه العلامة أحمد ابن عبد المؤمن القيسي المعروف بالشريشي الذي يقول: لم أدع كتابا ألّف في شرح ألفاظها وإيضاح أغراضها إلا وعيته نظرا، وتحققته معتبرا ومختبرا وترددت في تفهمه وردا وصدرا، وعكفت على استيفائه بسيطا كان أو مختصرا، ولم أترك في كتاب منها فائدة إلا استخرجتها ولا نكتة إلا علقتها ولا غريبة إلا استلحقتها فاجتمع من ذلك حفظا وخطا أعلاق جمة، وفوائد لم تهتم بها قبله همة، ثم لم أقنع بتدوين الدواوين، ولا اقتصرت على توقيف التصانيف، حتى لقيت بها صدور الأمصار وعلماء الأعصار.
وقد قام الشارح بالتعريف بالبلدان والأمصار المذكورة في المقامات، ثم شرح غريب