حكى الحارث بن همّام قال: حبّب إليّ مذ سعت قدمي، ونفث قلمي، أن أتّخذ الأدب شرعة، والاقتباس منه نجعة؛ فكنت أنقّب عن أخباره، وخزنة أسراره؛ فإذا ألفت منهم بغية الملتمس، وجذوة المقتبس، سددت يدي بغرزه، واستنزلت منه زكاة كنزه؛ على أنّي لم ألق كالسّروجيّ في غزارة السّحب، ووضع الهناء مواضع النّقب؛ إلّا أنّه كان أسير من المثل، وأسرع من القمر في النّقل، وكنت لهوى ملاقاته، واستحسان مقاماته، أرغب في الاغتراب، وأستعذب السّفر الّذي هو قطعة من العذاب.
***
قوله: نفث، أي كتب، والنّفث ما تلقيه من فيك من البصاق الغليظ، فشبّه ما يلقيه القلم من المداد بالنّفث، هذا ظاهر اللفظ، وإنما أراد في المعنى بالقلم ذكره، ونفثه منيّه، فكنى عن البلوغ بذلك، فهو يريد وقت الحلم، وهو الوقت يقوى فيه على المشي في الأسفار، والتصرف؛ كذا فسره لنا بعض حذّاق أشياخنا، وفسرّه الفنجديهي على ظاهره، فقال: معنى مذ سعت قدمي نفث قلمي، مذ قدرت على المشي والكتابة والنظم والنثر. شرعة: طريقة وشريعة وعادة، ومعناه: أصرف همتي إلى علم اللغة والعربية. قال الشافعي رضي الله عنه: من تعلّم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل مقداره، ومن تعلّم اللغة رقّ طبعه، ومن تعلّم الحساب جزل رأيه، ومن كتب الحديث قويت حجته ومن لم يصن نفسه، لم ينفعه عمله.
الاقتباس: الاكتساب وهو افتعال، من القبس. نجعة: طلب المرعى، أي جعلت طلب الأدب لي غذاء ورزقا. أنقّب: أبحث. أحباره: علمائه. ألفيت: وجدت. بغية:
حاجة. الملتمس: الطالب للشيء. جذوة: جمرة عظيمة. والمقتبس: الطالب للنار، والغرز: للرجل، كالرّكاب للسرج، ومعنى شددت بغرزه، أي تمسكت بركابه وبالغت في خدمته، روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أخذ بركاب رجل لا يرجوه ولا يخافه غفر له».