للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأسأله وألطفه عساه ... سيأسو ما بديني من جراح

ويجلو ما دجى من ليل جهلي ... بنور هدى كمنبلج الصّباح

فأبصق في محيّا أم دفر ... وأهجرها وأدفعها براحي

وأصحو من حميّاها وأسلو ... عفافا عن جآذرها الملاح

وأصرف همّتي بالكفّ عنها ... إلى دار السّعادة والنّجاح

***

فلمّا ألقتني الغربة بتنّيس، وأحلّتني مسجدها الأنيس، رأيت ذا حلقة ملتحمة، ونظّارة مزدحمة؛ وهو يقول بجأش مكين، ولسان مبين: مسكين ابن آدم وأيّ مسكين! ركن من الدّنيا إلى غير ركين، واستعصم منها بغير مكين، وذبح من حبّها بغير سكّين، يكلف بها لغباوته، ويكلب عليها لشقاوته، ويعتدّ فيها لمفاخرته، ولا يتزوّد منها لآخرته.

أقسم بمن مرج البحرين، ونوّر القمرين، ورفع قدر الحجرين: لو عقل ابن آدم، لما نادم، ولو فكّر فيما قدّم، لبكى الدّم، ولو ذكر المكافآت، لاستدرك ما فات. ولو نظر في المآل، لحسّن قبح الأعمال.

يا عجبا كلّ العجب، لمن يقتحم ذات اللهب، في اكتناز الذّهب، وخزن النّشب، لذوي النّسب. ثمّ من البدع العجيب، أن يعظك وخط المشيب، وتؤذن شمسك بالمغيب، ولست ترى أن تنيب، وتهذّب المعيب.

***

[تنّيس]

تنّيس بلدة كبيرة، وهي جزيرة أحدقت بها بحيرة يتّصل بها النيل، فتعذب عند زيادته ستة أشهر، وتملح ستّة أشهر، ويتّصل بها خليج دمياط، وخليجها ينقسم على شرقيها غربيّها، ويلتقيان فى البحيرة، فيسيرون بسفنهم من دمياط إلى تنّيس؛ دخولهم لها وخروجهم بريح واحدة محكمة. وأهل تنّيس ذوو يسار، وأكثرهم حاكة. وثياب الشروب التي تصنع بها وبدمياط لا يصنع مثلها في الدنيا، وليس في الدنيا طراز كتّان يبلغ الثوب منها دون أن يعين بذهب مائة دينار، غير طراز تنّيس ودمياط، ويكتفي ثوبها بقصّارة يوم واحد في البحيرة فيبيضّ. قال اليعقوبي: مدينة تنّيس يحيط بها البحر الأعظم الملح ولها بحيرة يأتي ماؤها من النّيل، وهي مدينة قديمة بها تعمل الثياب الرفيعة الصّفاق والعصب والبرود والوشي، وبها مرسى المراكب الواردة من الشام والمغرب.

<<  <  ج: ص:  >  >>