للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أيّ ماء لحرّ وجهك يبقى ... بين ذلّ الهوى وذلّ السؤال

فلما قرأ الشعر قال: قد شغل هذا ما يليه، ولا أرب لنا فيه.

وحكى الأصبهانيّ قال: جمع مجلس أبا تمام وعبد الصمد، وكان عبد الصمد سريح القول، وفي أبي تمام بطء، فأخذ عبد الصمد قرطاسا، وكتب: أنت بين اثنتين، الأبيات، ورمى بها إلى أبي تمام، فأخذه وخلا به طويلا، وجاء وقد كتب فيه: [الكامل]

أفيّ تنظم قول الزّور والفند ... وأنت أنزر من لا شيء في العدد

أشرجت قلبك من بغض على حرق ... كأنها حركات الرّوح في الجسد

فقال له عبد الصمد: يا ماصّ بظر أمه، أخبرني عن «لا شيء» في العدد كيف يكون؟ وعن قولك: «أشرجت قلبك»، أعيبة أو خرج، فأشرجه، عليك لعنة الله.

فانقطع أبو تمام انقطاعا ما رئي مثله.

وحكاية الصوليّ أولى بالصحة من هذه، وليس عبد الصمد من رجال أبي تمام، ولا له من التصرّف في أنواع الشعر ما لأبي تمام، وصنع البديع وقف عليه، ولو صحّت الحكاية فلا يحكم بالنّدرة، لكن يحكم بالجملة، واستعمال ديوان حبيب في مجالس العلماء شاهد على فضله، على أنّ ما جمعنا لعبد الصمد في هذا الكتاب غاية في بابه.

فلنرجع إلى ما قيل في ذل السؤال.

[[ذل السؤال]]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل وعنده ما يغدّيه أو يعيشه فإنما يستكثر من جمر جهنّم» (١).

وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: حسبك من السؤال أنه يضعف لسان المتكلم، ويكسر قلب الشجاع البطل، ويوقف الحرّ الكريم موقف العبد الذليل، ويذهب بنضرة اللون، ويمحو الحسب، ويحبّب الموت، ويمقت الحياة.

الأصمعي رحمه الله: سمعت أعرابيا يقول: المسألة طريق المذلّة، تسلب الشريف عزة والحسيب حسبه.

وقال معاوية لعبد الله بن الزبير: أنشدني ثلاثة أبيات غريبة، فقال أنشدكها بثلاثين ألفا تدفعها إليّ، فقال: حتى تنشد فأسمع، فأنشده أبيات الأفواه الأوديّ: [الوافر]

بلوت النّاس قرنا بعد قرن ... فلم أر غير ختل أو قتال (٢)


(١) أخرجه أبو داود في الزكاة باب ٢٤، وأحمد في المسند ٤/ ١٨١، بلفظ: «فإنه يستكثر من نار جهنم».
(٢) الأبيات في ديوان الأفوه الأودي ص ٢٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>