إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بمنتطحات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي إربة في القول جدّا ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقّة ... فنلت ذراها لا ذليلا ولا وغلا
ونظر إليه معاوية يوما يتكلّم معه، فأتبعه بصره، فقال متمثّلا: [الطويل]
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... مصيب ولم يثن اللّسان على هجر
يصرّف بالقول اللّسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصّقر
وروي أن طائرا أبيض خرج من قبره، فتأوّلوه علمه خرج إلى الناس.
وقيل: دخل قبره طائر أبيض، فقيل: هو بصره.
وقال أبو الزبير: مات ابن عباس رضي الله عنهما بالطائف، فجاء طائر أبيض فدخل في نعشه حين حمل، فما رئي خارجا منه.
وفضائله كثيرة مشهورة، فلنقف منها على هذا القدر.
[[إياس القاضي]]
وأما إياس، فهو أبو واثلة بن معاوية بن قرة بن إياس بن هلال بن رباب المزنيّ، قاضي البصرة. وسبب قضائه أنّ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى عديّ بن أرطأة عامله على البصرة؛ أن اجمع إياس بن معاوية المزنيّ والقاسم بن ربيعة الحارثيّ، فولّ القضاء أنفذهما وأفقههما. فجمع بينهما، فقال كلّ واحد: إنّ صاحبه أنفذ وأفقه، فقال له إياس: سل عنّي وعن القاسم فقيهي المصر: الحسن وابن سيرين- وكان القاسم يأتيهما وإياس لا يأتيهما- فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به، فقال القاسم: لا تسأل عني ولا عنه؛ فو الله الذي لا إله إلا هو؛ إن إياسا لأفقه منّي، فإن كنت كاذبا فما عليك إلا ألّا تولّيني وأنا كاذب، وإن كنت صادقا فينبغي لك أن تقبل قولي. فقال له إياس:
إنك جئت برجل، فوقفته على شفير جهنم، فنحي نفسه منها بيمين كاذبة يستغفر الله منها، وينجو مما يخاف، فقال له عديّ: أما إنك إذ فهمتها فأنت لها؛ فاستقضاه.
وقال إياس رحمه الله: أرسل إليّ ابن هبيرة فأتيته، فسألني فسكتّ، فلمّا أطلت قال: هيه! قلت: سل عمّا بدا لك، قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: أتفرض الفرائض؟ قلت: نعم، قال: أتعرف من أيام العرب شيئا؟ قلت: نعم، قال: أتعرف من أيام العجم شيئا؟ قلت: أنا بها أعرف، قال: إني أريد أن أستعين بك على عملي، قلت:
إن فيّ خصالا ثلاثا لا أصلح معها للعمل، قال: ما هي؟ قلت: أنا دميم كما ترى، وأنا عييّ، وأنا حديد، قال: أمّا دمامتك فإني لا أريد أن أحاسن بك الناس، وأما العيّ فإني أراك تعرب عن نفسك، وأما الحدّة فإن السوط يقوّمك، قم. فولّاني القضاء، وأعطاني عشرة آلاف درهم، فهي أول مال تموّلته.