للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ودخل عليه عديّ بن أرطأة في مجلس القضاء- وعديّ أمير البصرة، وكان أعرابيّ الطبع- فقال: يا هناه، أين أنت؟ قال: بينك وبين الحائط، قال: فاسمع مني، قال:

للاستماع جلست، قال: إني تزوّجت امرأة، قال: بالرّفاء والبنين، قال: وشرطت لأهلها ألّا أخرجها من بينهم، قال: أوف لهم بالشرط، قال: فأنا أريد الخروج، قال: في حفظ الله، قال: فاقض بيننا، قال: قد فعلت، قال: فبم تحكم؟ قال: بألّا تخرجها، قال:

بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك.

وأول ما ظهر من ذكائه، أنه دخل دمشق، وهو غلام، فتحاكم مع شيخ عند قاضيها، فصال إياس بحدّته على الشيخ، فقال له القاضي: إنه شيخ كبير، فخفّض كلامك، فقال له إياس: الحقّ أكبر منه، فقال له القاضي: أسكت، فقال: ومن ينطق بحجّتي؟ فقال له القاضي: ما أراك تقول حقّا، فقال إياس: لا إله إلا الله، أحقّ هذا أم باطل؟ فدخل القاضي من فوره إلى عبد الملك بن مروان، فأعلمه بما رأى من ذكائه، فقال له عبد الملك: أخرج فاحكم بينهما، وأخرجه الآن من دمشق إلى بلاده لئلّا يفسد على أهل الشام.

ولما دخل عبد الملك البصرة رأى إياسا وهو صبيّ، وخلفه أربعة من القرّاء أصحاب الطيالسة، وإياس يقدمهم، فقال عبد الملك: أفّ لهذه العثانين؛ أما فيهم شيخ يقدّمهم غير هذا الحدث! ثمّ التفت إليه، وقال: كم سنّك؟ فقال: سنّي- أطال الله بقاء الأمير- سنّ أسامة بن زيد بن حارثة حين ولّاه رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشا فيهم أبو بكر وعمر؛ فقال: تقدّم بارك الله فيك، وكان سنّه سبع عشرة سنة.

وأمّا ذكاؤه وفراسته، فقد ألّف في ذلك المدائنيّ كتابا سمّاه كتاب «زكن إياس»، والزّكن: التشبيه، يقال: زكّن عليهم وزكّم: شبّه وخيّل، وقيل: الزّكن: الظنّ والتفرّش.

ومن زكنه أنه اختصم إليه رجلان في قطيفتين: حمراء وخضراء، فقال أحدهما: دخلت الحوض لأغتسل ووضعت قطيفتي، ثم دخل واغتسل، فخرج قبلي، وأخذ قطيفتي، فتبعته، فزعم أنها قطيفته، فقال: ألك بيّنة؟ قال: لا، قال: ائتوني بمشط، فأتي به، فسرّح رأس هذا، ثم هذا، فخرج من رأس أحدهما صوف أحمر، ومن رأس الآخر أخضر، فقضى بالأخضر لصاحب الأخضر، وبالأحمر لصاحب الأحمر.

وأتى المدينة فصلّى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزكنه أهله حتى صاروا فرقتين:

فرقة تزعم أنه معلم، وأخرى تزعم أنه قاض، ثم وجّهوا إليه رجلا، فأخبره خبرهم، فقال: أصاب الذين ذكروا أني قاض، ورويدا أخبرك عن القوم؛ أمّا الذي من صفته كذا فهو كذا، وأما الذي يليه فهو كذا، وأما ذاك الشيخ فإنه نجار، فقال الرجل: في كلّهم والله أصبت إلّا في الشيخ، فإنه من قريش، فقال إياس: وإن كان من قريش! فقام الرّجل إلى أصحابه، فقال: قد جئتكم من عند أعجب النّاس، والله إن منكم من أحد إلّا أخبرني

<<  <  ج: ص:  >  >>