بصناعته إلّا هذا فزعم أنه نجّار، فقال: صدق والله؛ إني لأنجر عيدان جواريّ- يعني عود المزمار.
ونظر إلى ثلاث نسوة فزعن من شيء، فقال: هذه حامل، وهذه مرضع، وهذه بكر، فسألن فوجدن كذلك، فسئل من أين لك علم ذلك؟ فقال: لمّا فزعن وضعت كلّ واحدة منهنّ يدها على أهمّ المواضع لها، فوضعت المرضع على ثديها، والحامل على بطنها، والبكر على فرجها.
وسمع نباح كلب لم يره، فقال: هذا نباح كلب مربوط على شفير بئر، فنظر فكان كما قال، فقيل له في ذلك، فقال: سمعت عند نباحه دويّا، ثم سمعت بعده صدى يجيبه، فعلمت أنه عند بئر.
ومن فراسته أنه رأى أثر اعتلاف بعير، فقال: هذا بعير أعور، فنظروا فكان كما قال، فقيل له في ذلك، فقال: لأني وجدت اعتلافه من جهة واحدة.
ولما صار ذكاؤه يضرب به المثل، كما يضرب بجود حاتم وحلم الأحنف وشجاعة عمرو بن معد يكرب، نظمهم حبيب في بيت جمع فضلهم المتفرّق للعباس بن المأمون، فقال:[الكامل]
إقدام عمرو في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس (١)
وتوفّي سنة اثنتين وعشرين ومائة وأخباره كثيرة، وفيما أوردناه كفاية.
***
فعرّفته حينئذ شخصي؛ وآثرته بأحد قمصي، وأهبت به إلى قرصي، فهشّ لعارفتي وعرفاني، ولبّى دعوة رغفاني، وانطلق ويدي زمامه، وظلّي إمامه، والعجوز ثالثة الأثافي، والرّقيب الّذي لا يخفى عليه خافي. فلمّا استحلس وكنتي، وأحضرته عجالة مكنتي، قال لي: يا حارث، أمعنا ثالث؟ فقلت: ليس إلّا العجوز، قال: ما دونها سرّ محجوز. ثمّ فتح إحدى كريمتيه، ورأوا بتوأمتيه، فإذا سراجا وجهه يقدان، كأنّهما الفرقدان. فابتهجت بسلامة بصره، وعجبت من غرائب سيره، ولم يلقني قرار، ولا طاوعني اصطبار، حتى سألته: ما دعاك إلى التّعالي؛ مع سيرك في المعامي، وجوبك الموامي، وإيغالك في المرامي!
***
قوله:«أهبت به»، أي دعوته، وأصل «أهاب» دعا لنفسه من بعد. وقيل: الإهابة