حدّث الحارث بن همّام قال: أطعت دواعي التّصابي، في غلواء شبابي؛ فلم أزل زيرا للغيد، وأذنا للأغاريد؛ إلى أن وافى النّذير، وولّى العيش النّضير؛ فقرمت إلى رشد الانتباه، وندمت على ما فرّطت في جنب الله، ثمّ أخذت في كسح الهنات بالحسنات، وتلافي الهفوات قبل الفوات؛ فملت عن مغاداة الغادات، إلى ملاقاة التّقاة، وعن مقاناة القينات، إلى مداناة أهل الدّيانات، وآليت ألّا أصحب إلّا من نزع عن الغيّ، وفاء منشره إلى الطّي، وإن ألفيت من هو خليع الرّسن، مديد الوسن، أنأيت داري عن داره، وفررت عن عرّه وعاره.
***
أطلعت دواعي التّصابي، يقال: أطعت كذا، وطعت له، أي انقدت. والمطيع:
المنقاد، والتّصابي: التّظاهر بالصّبا والتشاغل به. ودواعيه: ما يدعوه إليه، وغلواء الشباب: أوله وسرعته، أراد: ملت إلى اللهو واللعب في أوّل شبابي، فلمّا أتى الشيب أحببت الرجوع إلى الخير. زيرا: كثير الزيارة. والغيد: جمع غيداء، وهي اللّينة العنق والمفاصل من النّعمة. أذنا للأغاريد، أي كثير الاستماع للغناء، وفلان أذن، إذا كان يستمع من كلّ قائل، ويقبل منه. وافى: أتى، والنّذير: الشيب، لأنه منذر الإنسان بتمام العمر، أي يعلمه. ولّى: رجع وزال. النّضير: الناعم، يريد زمن الشّباب.
ونؤخّر ذكر الشيب، فإنه يؤدّي إلى تغيير شرح المقامة، ونتكلم هنا على ذهاب الشّباب.
[[البكاء على ذهاب الشباب]]
قال أبو عمرو بن العلاء: ما بكت العرب شيئا ما بكت الشباب، وما بلغت به ما يستحقّه.
الأصمعيّ: من أحسن ألفاظ الشعر المراثي والبكاء على الشباب، قال ابن عباس رضي الله عنهما: الدنيا العافية، والشباب الصحة.