حكى الحارث بن همام قال: أشعرت في بعض الأيام همّا برّح به استعاره، ولاح عليّ شعاره، وكنت سمعت أن غشيان مجالس الذّكر، يسرو غواشي الفكر، فلم أر لإطفاء ما بي من الجمرة، إلّا قصد الجامع بالبصرة، وكان إذ ذاك مأهول المساند، مشفوه الموارد، يجتنى من رياضه أزاهير الكلام، ويسمع في أرجائه صرير الأقلام، فانطلقت إليه غير وان، ولا لاو على شان، فلمّا وطئت حصاه، واستشرفت أقصاه، تراءى لي ذو أطمار بالية، فوق صخرة عالية، وقد عصبت به عصب لا يحصى عديدهم، ولا ينادى وليدهم، فابتدرت قصده، وتورّدت ورده، ورجوت أن أجد شفائي عنده، فلم أزل أتنقّل في المراكز، وأغضي للاكز والواكز، إلى أن جلست تجاهه، بحيث أمنت اشتباهه، فإذا هو شيخنا السّروجيّ لا ريب فيه، ولا لبس يخفيه، فانسرى بمرآه همّي، وارفضّت كتيبة غمّي.
***
أشعرت: ألبست. برّح: شق واشتدّ. استعاره: توقّده في القلب. لاح: ظهر، يريد أنه لبس الهمّ كالشّعار. والشّعار: ثوب يلي الجسد، والشّعار علامة القوم في الحرب، فمعناه عبس وجهه من شدة الهم. يسرو: يزيل. غواشي الفكر: ما يغشاه ويدخل عليه من الهمّ. مأهول: كثير الأهل. المساند: جمع مسند، وهو ما يسند إليه ظهره، أراد مواضع العلماء المتصدّرين للإقراء. والموارد: مواضع المياه. مشفوه: كثيرة الشفاه عليه للشّرب، وأراد ازدحام الطلبة على الأشياخ لأخذ العلم. أزاهير: أنوار. أرجائه: نواحيه.
صرير: أصوات. وان: مقصّر. لاو على شان: معرّج على أمر. استشرفت أقصاه:
عصب: جماعات. لا ينادى وليدهم، هذا مثل يستعمل في الأمر المعجب المبالغ في وصفه المعجب منه، وقد يؤوّل على تأويلات، وهو يستعمل في الخير والشر. والرخاوة والشدة. ابتدرت قصده، أي عجلت المشي إلى جهته. توردت ورده، أي طلبت منفعته.
والمراكز: مواضع الجلوس، ومركز الرجل: موضعه، وركزت الشيء غرسته. أغضي: