حدّث الحارث بن همّام قال: لمّا اقتعدت غارب الاغتراب، وأنأتني المتربة عن الأتراب، طوّحت بي طوائح الزّمن، إلى صنعاء اليمن، فدخلتها خاوي الوفاض، بادي الإنفاض؛ لا أملك بلغة ولا أجد في جرابي مضغة.
***
إن قيل؛ لأي معنى اختار الحريري حارثا وهماما وأبا زيد، دون غيرهم من الأسماء؟ فالجواب أنه إنما قصدهم لأنهم أصدق الأسماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المرفوع:«تسمّوا بأسماء الأنبياء وأحبّ الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة»(١) وصدقهما أنه ليس أحد إلا وهو يحرث، أي يحاول الكسب أو يهمّ بحاجته.
وأما أبو زيد، فإن صدق أنه إنسان بعينه كما تقدّم في الصدر وقع الإكتفاء به، وإن لم يصدق فقد حكى أهل اللغة أنه كنية الكبر، وأنشد ابن قتيبة:[الطويل]
أعار أبو زيد يميني سلاحه ... وحدّ سلاح الدّهر للمرء كالم
وكنت إذا ما الكلب أنكر أهله ... أفدّى، وحين الكلب جذلان نائم
سلاحه: العصا وإنكار الكلب أهله، إذا لبسوا السلاح. وجذلان نائم، في الجدب إذا ماتت المواشي فيشبع من لحومها وينام. وقال ابن الأعرابيّ: يقال للشيخ الكبير: أبو زيد وأبو سعيد والسروجيّ في الغالب إنما يصفه بالكبر والهرم.
فوقعت التسمية لغوية، وإنما عنى بالحارث بن همام نفسه لأنه يصفه بأشياء لا تليق إلا بالدهر، مثل قوله:[الرجز]
وكل سرح فيه ذئبي عائث ... حتى كأني للأنام وارث
* سامهم وحامهم ويافث*
(١) أخرجه أبو داود في الأدب باب ٦١، وأحمد في المسند ٤/ ٣٤٥، والطبراني في الجامع الصغير ١/ ٢٢٤.