للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إنّ النّجوم نجوم الجوّ أحقرها ... في العين أكثرها في الجوّ إصعادا

[[من نوادر الولدان]]

ولمّا ذكر لهذا الصبيّ من فصاحة اللسان وبراعة البيان ما ذكر، وجب علينا أن نذكر من نوادر الولدان فصلا كافيا يؤنس بما ذكر، لئلا نخلّ بما شرطناه، فقد تروى للولدان نوادر، ربما عجزت عنها الكهول ذوو البصائر.

حكى الخطّابيّ أنه قدم على عمر بن عبد العزيز وفد فيهم شاب، فتحوّس للكلام، فقال عمر: كبّروا كبّروا، أي ليتكلّم الكبراء منكم، فقال: الغلام يا أمير المؤمنين، لو كان [الأمر] بالسنّ لكان في المسلمين من هو أسنّ منك.

قال عمر: صدقت! تكلّم.

فتحوّس: فتهيّأ للكلام.

وفي رواية: قدم وفد الحجاز على عمر فقدّموا غلاما منهم للكلام، فقال عمر:

مهلا، ليتكلّم من هو أسنّ منك، فقال الغلام: مهلا يا أمير المؤمنين، إنّما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه، فإذا منح الله العبد لسانا لافظا وقلبا حافظا فقد أجاد له الحلية.

قال: تكلّم، قال: نحن وفود الشكر، لا وفود المرزئة، لم تقدمنا إليك رغبة ولا رهبة، لأنّا أمنّا في زمانك ما خفنا، وأدركنا ما طلبنا.

ودخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون حين قبضت ضياعهم وهو غلام صغير، فقال: السّلام عليك يا أمير المؤمنين، محمد بن عبد الملك، سليل نعمتك وابن دولتك، وغصن من أغصان دوحتك؛ أفتأذن لي في الكلام؟ قال: نعم. فحمد الله تعالى وصلّى على نبيه، ثم قال: أمتعنا الله بحياطة ديننا ودنيانا، ورعاية أقصانا وأدنانا، ببقائك يا أمير المؤمنين، ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا، وفي أثرك من آثارنا، ويقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا، هذا مقام العائذ بظلّك، الهارب إلى كنفك وفضلك، الفقير إلى رحمتك وعدلك. ثم سأل حوائجه فقضاها.

وقحطت البادية أيام هشام بن عبد الملك؛ فوفد عليه رءوس القبائل فجلس لهم، وفيهم صبيّ، ابن أربع عشرة سنة، يسمّى درواس بن حبيب، في رأسه ذؤابة، وعليه بردة يمانية. فاستصغره هشام وقال لحاجبه: ما يشاء أحد أن يصل إلينا إلا وصل، حتى الصبيان! فقال درواس: يا أمير المؤمنين، إنّ دخولي لم يخلّ بك ولا انتقصك، ولكنّه شرّفني، وإن هؤلاء قدموا لأمر فهابوك دونه، وإن الكلام نشر، والسكوت طيّ لا يعرف إلا بنشره؛ فأعجبه كلامه، وقال: انشر لا أمّ لك! فقال: إنا أصابتنا سنون ثلاثة، فسنة أكلت اللحم، وسنة أذابت الشحم، وسنة أنقت العظم (١)، وفي أيديكم فضول أموال،


(١) النقى: منح العظم، وأنقت العظم: أي أخرجت النقى منه.

<<  <  ج: ص:  >  >>