[[رابعة العدوية]]
وأما رابعة فهي بنت إسماعيل العدويّة، وكانت قد بلغت من النّسك والفضل والزهد منزلة شريفة، وكانت منوّرة البصيرة، مطهّرة السريرة، حظيت بالمكاشفات الربانية، وكان سفيان الثوريّ يذهب إليها ويسألها عن مسائل دينية، ويعتمد عليها، وخطبها عبد الواحد ابن زيد، فقالت له بعد أن حجبته أياما ثم أذنت له: يا شهوان، أي شيء رأيته فيّ من آية الشهوة! ألا خطبت شهوانية مثلك!
وقال أبو سليمان الداراني: بتّ ليلة عند رابعة العدوية، فقامت إلى محراب لها، وقمت إلى ناحية من البيت فلم تزل قائمة إلى السّحر، فقلت: ما جزاء من قوّانا على قيام هذه الليلة؟ قالت: جزاؤه أن نصوم له غدا.
وزارها أصحابها، فذكروا الدنيا وأقبلوا على ذمّها، فقالت: اسكتوا عن ذمّها، فلولا موضعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها! ألا من أحبّ شيئا أكثر من ذكره.
واحتاجت رابعة إلى شيء فقيل لها: لو بعثت إلى فلان؟ قريب لها فقالت: والله لا أطلب الدنيا ممّن يملكها، فكيف ممّن لا يملكها!
وحدّث جعفر بن سليمان قال: أخذ بيدي سفيان الثوريّ فقال لي: سربي إلى المؤدّبة التي لا أجدني أستريح إذا فارقتها- يعني رابعة- قال: فلما دخلت عليها، رفع سفيان يديه، وقال: اللهمّ إنّي أسألك السلامة! فبكت رابعة، فقال لها: ما يبكيك؟
فقالت: أنت عرّضتني للبكاء، فقال لها وكيف ذلك؟ فقالت: أما علمت أن السّلامة من الدنيا ترك ما فيها، فكيف وأنت متلطّخ بها!
وقال سفيان الثوري لرابعة رحمة الله عليهما: ما حقيقة إيمانك؟ قالت: ما عبدته خوف النار، ولا رجاء الجنة، فأكون كالأجير السوء، بل عبدته حبّا له وشوقا إليه، وقالت في معنى ذلك: [المتقارب]
أحبّك حبتين: حبّ الهوى ... وحبّا لأنّك أهل لذاك
فأمّا الذي هو حبّ الهوى ... فشغلي بذكرك عمّن سواك
وأمّا الذي أنت أهل له ... فكشفك لي الحجب حتى أراك
فلا الحمد في ذا ولا ذا ليا ... ولكن لك الحمد في ذا وذاك
وقيل لها: كيف حبّك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: شغلني حبّ الخالق عن حبّ المخلوقين.
ودخل سفيان عليها وهي قائمة تصلّي، فلم تعرّج عليه، ودخل جعفر- وكان يخدمها- فقال لسفيان: أيّ شيء دار بينك وبينها؟ قال: ما كلّمتني. فقال لها: يا سبحان الله! الشيخ جاء إليك فما كلّمته، فقالت: إن العبد إذا كان مقبلا على الله عزّ وجلّ كان