فقال الرجل له: أنت معبد؟ قال نعم، وقال له معبد: بالله أنت ابن سريج! قال:
نعم، وو الله لو عرفتك ما غنّيت بين يديك.
قال معبد: فلما قدمت مكة، قيل لي: إن ابن صفوان قد جعل بين المغنّين جائزة، فأتيت بابه، فطلبت الدّخول، فقال لي آذنه: قد أمرني أن ألا آذن لأحد عليه، قلت:
فدعني أدنو من الباب، فأغني صوتا، فقال: أمّا هذا فنعم، فدنوت من الباب، فغنيت، فقالوا: معبد، ففتحوا لي وأخذت الجائزة.
***
[[إسحاق الموصلي]]
وأما إسحاق فذكره صاحب الأغاني، وقال: كان محلّ إسحاق من العلم والأدب والرواية، وتقدمه في الشعر وسائر المحاسن أشهر من أن يوصف، وأما الغناء فكان أصغر علومه، وأدنى ما وسم به وإن كان الغالب عليه؛ وهو الذي صحح أجناس الغناء وطرائفها، وميزها تمييزا لم يقدر أحد عليه قبله ولا بعده، من تدقيق المجاري، وتمييز الأصناف التي جعلوها صنفا واحدا، وهي في نفسها كذلك، ولكنها تفترق عند متيقظ مثله، وأين مثله! وروي عنه أنه قال: بقيت دهرا أغلّس إلى هشام أسمع الحديث وإلى الكسائي أقرأ عليه جزءا من القرآن، وإلى الفرّاء وابن غزالة أسمع اللغة، ثم آتي منصور زلزل، فيطارحني طريقتين أو ثلاثا، ثم آتي عاتكة بنت شهدة، فآخذ منها صوتا أو صوتين، ثم آتي الأصمعيّ وأبا عبيدة، فأستفيد منهما وأناشدهما، ثم أصير إلى أبي فأعلمه بما صنعت، وأتغدّى معه، فإذا كان العشي رحت إلى الرشيد.
وروى الحديث، ولقي أهله، مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وغيرهما، وسأل المأمون أن يكون دخوله مع أهل العلم والأدب، لا مع المغنين، فإذا أراده للغناء غنّاه، فأجابه إلى ذلك.
وقال المأمون: لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس من الشهرة بالغناء، لوليته القضاء بحضرتي، فإنه أولى به، وأصدق وأعفّ، وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة، وكان أجود الناس بالمال وأبخلهم بالغناء، وأعطى لمنصور زلزل لما علمه الضّرب بالعود أكثر من مائة ألف درهم.
وأهدى له ابن الأعرابي نسخة من النوادر بخطه، فمرّ يوما على المدائنيّ، فقال:
إلى أين يا أبا عبد الله؟ قال: أمرّ على رجل كما قال الشاعر: [المنسرح]
نحمل أشباحنا إلى ملك ... نأخذ من ماله ومن أدبه
فقال: ومن هو؟ قال: أبو محمد إسحاق بن إبراهيم.
ومات وهو أشعر أهل زمانه، وقال رأيت جريرا في منامي ينشد شعرا، فلما فرغ