للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من الحجاز، ولقصدكم بالأهواز دخلت السفينة، والله لا قصرت في جواريك [هؤلاء] حتى أجعلهنّ خلفا من الماضية، فأكبّ الرجل والجواري على يديه ورجليه بالتقبيل، ويقولون: «كتمتنا نفسك، حتى أسأنا عشرتك، وأنت ممّن نتمنّى من الله أن نلقاه».

ثم وهب له ثلاثمائة دينار وطيبا وهدايا بمثلها، فأقام عنده سنة حتى أخذ عنه جواريه ثم انصرف إلى الحجاز.

قال ابن الكلبي: قدم ابن سريح والغريض المدينة، وكانا في صنعة الغناء من الحذاق، يتعرّضان لمعروف أهلها، فلما شارفاها تقدّما ثقلهما، ليرتادا منزلا، حتى إذا همّا بمغسلة تغسل فيها الثّياب قرب المدينة، إذا هما بغلام ملتحف بإزار وطرفه على رأسه، وبيده حبالة يصيد بها الطير، وهو يتغنّى: [البسيط]

القصر فالنخل فالجمّاء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون (١)

فإذا الغلام معبد فلما سمعاه مالا إليه، واستعاداه، فأعاد الصوت، فسمعا شيئا لم يسمعا مثله قطّ، فقال أحدهما لصاحبه: هل سمعت كاليوم قطّ؟ قال: لا والله، فما رأيك؟ قال ابن سريج: هذا غناء غلام يصيد الطّير، فكيف بمن في المدينة، أمّا أنا فثكلت والدي إن لم أرجع، فرجع ولم يدخلها.

وروى إسحاق أنّ معبدا سافر إلى مكة، فسمع ببطن مرّ غناء، فقصد الموضع، وإذا رجل جالس على حرف بركة فارق شعره حسن الوجه عليه درّاعة مصبوغة بزعفران، وهو يتغنى: [الخفيف]

حنّ قلبي من بعد ما قد أنابا (٢) ... ودعا الهمّ شجوه فأجابا

ذاك من منزل لسلمى خلاء ... لابس من خلائه جلبابا

عجت فيه وقلت للرّكب عوجوا ... طمعا أن يردّ ربع جوابا

فاستثار المنسيّ من لوعة الح ... بّ وأبدي الهموم والأوصابا

فقرع معبد بعصاه وغنى: [الكامل]

منع الحياة من الرجال ونفعها ... حدق تقلّبها النّساء مراض (٣)

وكأنّ أفئدة الرجال إذ رأوا ... حدق النساء لنبلها أغراض


(١) بعده في الأغاني ١/ ١١
قد يكتم الناس أسرارا فأعلمها ... وما ينالون حتى الموت مكنوني
والبيت الأخير للمعيطي في لسان العرب (كنن).
(٢) الأبيات في الأغاني ١/ ٤٧.
(٣) البيتان للفرزدق في ديوانه ص ٤٨٨، والأغاني ١/ ٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>