للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المقامة السّادسة والأربعون وهي الحلبيّة

روى الحارث بن همام قال: نزع بي إلى حلب، شوق غلب، وطلب يا له من طلب! وكنت يومئذ خفيف الحاذ، حديث النفاذ، فأخذت أهبة السّير، وخفقت نحوها خفوق الطّير؛ ولم أزل مذ حللت ربوعها، وارتبعت ربيعها، أفاني الأيام، فيما يشفي الغرام، ويروى الأوام؛ إلى أن أقصر القلب عن ولوعه، واستطار غراب البين بعد وقوعه.

***

نزع بي، أي شوّقني وحملني.

[[مدينة حلب]]

حلب: مدينة عظيمة بالشام وقنّسرين، خمس من أخماس الشام، ومدينته العظمى حلب وساحلها أنطاكية. وذكرها شيخنا ابن جبير فقال: حلب بلدة قدرها خطير، وذكرها في كلّ زمان يطير، خطابها من الملوك كثير؛ كانت في القديم ربوة فيما يقال، كان يأوي إليها إبراهيم الخليل عليه السلام بغنمه، فيحلبها هناك ويتصدّق بلبنها، فسميت حلب، وبها مشهد كريم منسوب إليه، يتبرّك الناس بالصلاة فيه، ولها قلعة شهيرة الامتناع، بائنة الارتفاع، معدومة الشبه والنظير في القلاع، تنزهت حصانة أن ترام أو تستطاع، قاعدة كبيرة، ومائدة من الأرض مستديرة، منحوتة الأرجاء، موضوعة على نسبة اعتدال واستواء، فسبحان من أحكم تدبيرها وتقديرها، وأبدع كيف شاء تصويرها وتدويرها، ومن كمال جمالها الزائد على المشترط لحصانة القلع أنّ الماء بها نابع وقد صنع عليها جفان، والطعام يصير فيها الدهر كله، وليس من شروط الحصانة أهمّ من هاتين الخلّتين، ويطيف بجبلها سوران حصينان، يعترض دونهما خندق بالماء، فلا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه، وسورها الأعلى مجلّل، كله أبراج منتظمة فيها العلالى المنيعة، وقد تفتحت كلّها طبقات، وكل برج منها مسكون، والبلد ضخم جدا، جميل الترتيب، أسواقه متصلة الانتظام، تخرج من سماط صفّة إلى سماط أخرى، وقيساريتها وجامعها ومدارسها ما سمع بمثل وصفها في بلد من بلاد الله تعالى؛ كل سوق من أسواقها مسقّف بالخشب، يقيد البصر حسنا ويستوقف المستوفز تعجبا. وقيساريتها حديقة بستان نظافة وجمالا،

<<  <  ج: ص:  >  >>