وقد غلط المتنبي في هذا، ونسب فيه إلى الكذب والمحال الفاضح، لأن سيادة الأطفال في المهود وقود الجيوش من أمحل المحال، وهذا وإن كان ظاهره كذلك، فقد اتسعت العرب وأهل الأدب في هذا القدر، وأقاموا تخيّل النجابة في المولود في مهده مقام وجودها في كبره. ثم إذا وجدوا صفة الكمال في الرجل التامّ حكموا بكمالها، لأنه رضعها في ثدي أمه، أو غذي بها في بطن أمه، ألا ترى قوله: تعلمت العلم قبل أن يقطع سرّك وسررك، وقبل أن يقطع ذاك، كان في بطن أمّه، وهذا لم ينكره أحد، ومن شعر الحماسة في الذي رأى المهلب في مهده فقال:[الطويل]
خذوني به إن لم يسد سرواتهم ... ويبرع حتى لا يصاب له مثل
وفيها أيضا:[الطويل]
لئن فرحت بي معقل عند شيبتي ... لقد فرحت بي بين أيدي القوابل
وذلك لتخيّل النجابة فيه في ذلك الوقت، ألا ترى ما تثبت نساء العرب من بلوغ السيادة لأبنائهنّ عند ترقيصهن، وانظر إلى ذلك إن شئت في فصل نظمناه في كتابنا الموضوع لاختصار نوادر أبي عليّ، فقد سقط عن المتنبي والحريري بهذا ما عيب عليهما، وقال سوار بن أبي شراعة:[الرمل]
تعرف السّودد في مولودهم ... وتراه سيّدا إن أيفعا
نعش: رفع الضعيف بجوده. فرّج: أزال همه. ضافر: فاخر. أبهج: أدخل السرور على أحبابه إذا كان له الغلب. نافر: حاكم في النسب.
وكانوا في الجاهلية إذا تنازع الرّجلان الشّرف تنافرا إلى حكمائهم فيفضّلون الأشرف، وسميت منافرة لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة: أيّنا أعزّ نفرا.
[[منافرة عامر بن الطفيل وعلقمة بن علاثة]]
وأشهر منافرة في الجاهلية منافرة عامر بن الطّفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب مع علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر، حين قال له علقمة: الرئاسة لجدّي الأحوص، وإنما صارت إلى عمك أبي براء من أجله، وقد أسنّ عمك وقعد عنها، فأنا أولى بها منك. وإن شئت نافرتك، فقال عامر: قد شئت والله؛ لأنا أكرم منك حسبا، وأثبت نسبا، وأطول قصبا، فقال علقمة: أنافرك وإني لبرّ وإنّك لفاجر، وإني لولود وإنك لعاقر، وإني لعفّ وإنك لعاهر، وإني لواف وإنك لغادر؛ فقال عامر: أنافرك؛ أنا أسنى منك سنّة، وأطول قمّة، وأحسن لمّة، وأجعد جمّة، وأبعد همّة. فقال علقمة: أنت جسيم وأنا قضيف (١)، وأنت جميل، وأنا قبيح؛ ولكن أنافرك أنا أولى بالخيرات منك.