للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فخرجت أمّ عامر فقالت: نافره أيّكما أولى بالخيرات، ففعلوا على أن جعلوا مائة من الإبل يعطاها الحكم الذي ينفر عليه صاحبه، فخرج علقمة ببني خالد بن الأصفر وبني الأحوص ومعهما القباب والجزور والقدور؛ ينحرون في كلّ منزل يطعمون، وخرج عامر ببني مالك، وقال: إنها المقارعة عن أحسابكم، فاشخصوا: بمثل ما شخص به، وقال لعمه أبي براء: أعنّي، فقال: سبّني، فقال لا أسبّك وأنت عمّي، فقال: وأنا لا أسبّ الأحوص وهو عمّي، ولكن دونك نعلي، فإني ربعت فيها أربعين سنة؛ ولم ينهض معه.

فجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أميّة، ثم إلى أبي جهل بن هشام، فلم يقولا بينهما شيئا، ثم رجعا آخر إلى هرم بن قطبة بن سيار بن عمر الفزاريّ، فقال: لعمري لأحكمنّ بينكما، فأعطياني موثقا أطمئن إليه أن ترضيا بحكمي، وتسلّما ما قضيت بينكما. ففعلا، فأقاموا عنده أيّاما فأرسل إلى عامر فأتاه سرّا، فقال: قد كنت أحسب أنّ لك رأيا، وأن فيك خيرا، وما حبستك هذه المدة إلا لتنصرف عن صاحبك؛ أتنافر رجلا لا تفتخر أنت وقومك إلا بآبائه! فما الذي أنت به خير منه؟ فقال عامر: نشدتك الله والرحم، ألّا تفضل عليّ علقمة، فو الله لئن فعلت لا أفلح بعدها، هذه ناصيتي فاجززها واحتكم في مالي، فإن كنت ولا بدّ فاعلا فسوّ بيني وبينه، فقال له ما قال لعامر، فقال له: أتفاخر رجلا هو ابن عمّك في النسب وأبوه أبوك وهو مع ذلك أعظم منك غناء وأحمد لقاء، وأسمح سماحا! فما الذي أنت به خير منه! فردّ عليه علقمة ما ردّ عامر وانصرف وهو لا يشك أنه ينفّر عامرا عليه. فأرسل هرم إلى بنيه وبني أخيه، وقال لهم:

إني قائل غدا بينهما مقالة، فإذا فرغت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة، وليطرد بعضكم مثلها فلينحرها عن عامر، وفرّقوا بين الناس لا يكون بينهم جماعة. ثم أصبح هرم فجلس مجلسه وأقبل عامر وعلقمة حتى جلسا، فقال هرم: إنكما يا بني جعفر قد تحاكمتما إليّ؛ أنتما كركبتي البعير الآدم الفحل تقعان على الأرض معا، وليس فيكما واحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه، وكلاكما سيد كريم. ولم يفضّل واحدا منهماعلى صاحبه لئلا يجب بذلك شرّا بين الحيّين، ونحرت الجزر وفرّقت على الناس.

وعاش هرم حتى أدرك خلافة عمر رضي الله عنه، فقال: يا هرم، أي الرجلين كنت مفضلا لو فعلت؟ فقال: لو قلت ذلك اليوم عادت جزعة، ولبلغت شعفات هجر، فقال عمر: نعم مستودع السرّ أنت يا هرم، مثلك فليستودع العشيرة أسرارهم، والحكاية طويلة، وقال فيه الأعشى: [السريع]

حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الباهر (١)

لا يقبل الرّشوة في حكمه ... ولا يبالي غيرة الخاسر

قوله: فاء، أي رجع. أبلج: بيّن ظاهر. أتعب من سيلي، يقول إن الأمير الذي


(١) البيتان في ديوان الأعشى ص ١٤١.

<<  <  ج: ص:  >  >>