للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كأن سرّى في أحشائه لهب ... فما يطيق له صمّا حواشيها

قد كان صدرك للأسرار جندلة ... ضنينة بالذي تخفي نواحيها

فعاد من بثّ ما استودعت جوهرة ... رقيقة تستشفّ العين ما فيها

وله أيضا: [الوافر]

ثناني عنك ما استشعرت سرّا ... خلال فيك لست لها يراض (١)

وإنّك كلّما استودعت سرّا ... أنمّ من النّسيم على الرياض

قوله: «وبه جرى المثل في النميمة»، يقال: أنمّ من الزجاجة على ما فيها، لأنه جوهر لا يكتم ما فيه.

[[مما قيل في وصف الذهب والزجاج]]

قال الأصبهانيّ: ما زال البلغاء يتعاطون وصف هذا الجوهر، فعبّروا عن مدحه وذمّه، فأما ذمه فإن إبراهيم بن سيار النظام أخرجه في كلمتين بأوجز لفظ، وأتمّ معنى، فقال: سريع الكسر، بطيء الجبر.

وقال في الذهب: الذهب لئيم، لأن الشكل يصير إلى شكله، وهو عند اللئام أكثر منه عند الكرام.

وأما سهل بن هارون، فكان يوما بمجلس أحد الملوك، وشدّاد الحربيّ يعدّد خصال الذهب، فقال: هو أبقى الجواهر على الدّفن، وأصبرها علىالماء، وأقلّها نقصا في النار، وهو أوزن من كلّ ذي وزن، إذا كان في مقدار شخصه، ولو وضعت على ظهر الزئبق في إنائه قيراطا من ذهب، لرسب حتى يضرب قعر الإناء، وسائر الجواهر تطفو فوقه؛ ولو كان الجوهر ذا وزن ثقيل، ورجح عظيم ولا تشدّ الأسنان المتقلقلة بغيره، ولا يوضع في مكان الأنوف المصطلمة سواه، وميله أجود الأميال، والهند تمرّه في العين بلا كحل لصلاح طبعه، وعليه مدار التبايع مذ كان التبايع، وهو ثمن لكل شيء، وهو الزرياب (٢) والصّفائح التي تكون في سقف الملوك، والطبخ في قدوره أغذى وأمرأ.

وسئل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن الكبريت الأحمر؛ فقال: هو الذهب؛ فأدرك سهل بن هارون من الغيرة والحسد ما دعاه إلى معارضته، فقال يذمّ الذهب، ويفضّل الزّجاج: الذهب مخلوق والزجاج مصنوع، وإن فضله الذهب بالصلابة فضله الزجاج بالصفاء، والزجاج أبقى على الدّفن، والزجاج نور علويّ، والذهب ميّاع سيّال، ولم تتخذ الناس آنية للشراب أجمع لما يريدون من الشراب منه، والشراب فيها أحسن منه


(١) الأبيات في ديوان السري الرفاء ص ١٥٧.
(٢) الزرياب: هو الذهب الخالص.

<<  <  ج: ص:  >  >>