حكى الحارث بن همّام، قال: نبا بي مألف الوطن، في شرخ الزّمن؛ لخطب خشي، وخوف غشي؛ فأرقت كأس الكرى، ونصصت ركاب السّرى، وجبت في سيري وعورا لم تدمّثها الخطا، ولا اهتدت إليها القطا؛ حتّى وردت حمى الخلافة، والحرم العاصم من المخافة، فسروت إيجاس الرّوع واستشعاره، وتسربلت لباس الأمن وشعاره. وقصرت همّي على لذّة أجتنيها، وملحة أجتليها.
فبرزت يوما إلى الحريم لأروض طرفي، وأجيل في طرقه طرفي؛ فإذا فرسان متتالون، ورجال منثالون، وشيخ طويل اللّسان، قصير الطّيلسان، قد لبّب فتى جديد الشباب، خلق الجلباب؛ فركضت في إثر النّظارة؛ حتّى وافينا باب الإمارة، وهناك صاحب المعونة متربّعا في دسته، ومروّعا بسمته.
***
قوله «نبا بي» أي قلق ولم يوافقني. الوطن: المنزل. ومألفه. موضع الاجتماع به والتأليف فيه.
شرخ: أوّل، أراد في أول زمانه وشبابه. خطب: أمر مخوّف. خشي: خيف.
وغشي: نزل وغطّى.
أرقت: هرقت، وجعل للكرى وهو النوم كأسا مجازا، وكنى بهرقها عن إزالة النوم عن عينه. نصصت: رفعت وحرّكت ركاب السرى: إبل السّير. جبت: قطعت. وعورا:
طائر وقد تقدم. وهدايتها: فيما زعموا أنها تترك فراخها بالصحراء، وتذهب عند طلوع الشمس لطلب الماء من مسيرة عشرين ليلة فما دونها، فيردنه ضحوة يومهنّ فيحملن الماء لفراخهنّ فينهلنهن ثم يرجعن بعد الزوال إلى تلك المسافة، فيشربن ويأتين فراخهنّ في عشية يومهنّ فيسقينهنّ عللا بعد نهل، ولا يخطئن مواضع فراخهنّ، فيقال لذلك: أهدى من القطا، قال الشاعر:[الطويل]