للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لي، فقلت: بما أنفقت في طريق مكة؟ فقالت: أما النفقات فرجعت أجورها إلى أربابها، وغفر لي بنيّتي.

[[بوران بنت الحسن بن سهل وامرأة بالمأمون]]

وأما بوران فهي خديجة بنت الحسن بن الحسن بن سهل، تزوّجها المأمون على يد إسحاق الموصليّ، وفي هذا التزويج قصّة الزّبيل وهي طويلة ظريفة، نذكرها على جهة الاختصار، حدّث إسحاق الموصليّ قال:

بينا أنا ذات يوم عند المأمون، وقد خلا وجهه، وطابت نفسه، فقال: يا إسحاق، هذا يوم خلوة وطيب، فقلت: طيب الله عيش أمير المؤمنين، وأدام سروره وفرحه. فأخذ بيدي، وأدخلني في مجالس غير التي كنّا فيها، فأخذنا من لذاتنا وشرابنا حتى غربت الشمس، فقال: قد عزمت على دخلة إلى دار الحرم، فلا ترم حتى آتيك، فنهض وبقيت إلى عامة الليل، وكان المأمون أشغف خلق الله بالنساء، وأشدّهم ميلا إليهنّ، فقلت في نفسي: هو فيلذة وأنا في غير شيء، وتذكرت صبيّة اشتريتها، وكنت عزمت على افتضاضها فنهضت إلى الباب، فقال الحاجب: أين تريد؟ فقلت: الانصراف، قال فإن طلبك، قلت هو من لذة السرور في شغل عن طلبي، فقيل لي: إن غلمانك استبطئوك وانصرفوا. فجيء بدابة، فركبتها ومشيت، فأحسست بالبول، فعمدت إلى زقاق لأبول، فبلت وقمت لأتمسح بالحيطان إذا أنا بشيء معلّق من تلك الدور، فنهضت فإذا بزبيل (١) كبير بأربع آذان، ملبس ديباجا، فقلت: إنّ لهذا سببا، وبقيت أتروّى في أمره، ثم قلت:

والله لأجلسنّ فيه كائنا ما كان، فجلست، فلمّا أحسّ بي الذين يرقبونه، جذبوه إلى رأس الحائط، فإذا أربع جوار يقلن لي: انزل بالرّحب والسعة، فمشت بين يديّ جارية بشمعة، حتى نزلت إلى دار نظيفة إلى مجالس مفروشة، لم أر مثلها إلّا في دار ملك، فجلست فما شعرت إلّا بعد ساعة، حتى أزيلت ستور كانت في ناحية الدار، وإذا وصائف يتماشين، في أيديهنّ الشمع، وبعضهنّ بمجامر يحرق فيها العود، وبينهنّ جارية تتهادى كأنّها البدر الطالع، فنهضت قائما، فقالت: مرحبا بك من زائر! وجلست. ثم استطردت إلى سؤالي أبدع استطراد، فقلت: انصرفت من عند بعض إخواني، وغرني الوقت، وحرّكني البول، فعدلت إلى هذا الزقاق، فوجدت زبيلا معلّقا، فحملني النبيذ أن جلست فيه، فإن كان خطأ فالنبيذ أكسبنيه، قالت: لا ضير، أرجو أن تحمد عاقبة أمرك، قالت:

فما صناعتك؟ قلت: بزّاز من بغداد، قالت: فهل رويت من الأشعار شيئا؟ قلت: شيئا ضعيفا، قالت: فذاكرنا، قلت: إن للداخل حشمة ولكن تبدءين، قالت: صدقت، فأنشدتني لجماعة من القدماء والمحدثين من أجود أقاويلهم، وأنا مستمع لا أدري ممّ


(١) الزبيل: وعاء أو قفة.

<<  <  ج: ص:  >  >>