أعجب! أمن حسنها، أم من حسن روايتها وجودة ضبطها للغريب، أم من اقتدارها على النّحو ومعرفة أوزان الشعر! ثم قالت: أذهب ما كان عندك من الحصر؟ قلت: إي والله، قالت: فإن رأيت أن تنشدنا، فأنشدتها لجماعة من القدماء ما فيه مقنع، فاستحسنت ذلك ثم قالت: والله ما ظننت أن يوجد في أبناء السوقة هذا!
ثم أمرت بالطعام فأحضر، وقالت: الممالجة أول الرضاع، فدونك. وجعلت تقطّع وتضع بين يديّ، وفي المجلس من صنوف الرياحين، وغرائب الفواكه ما لا يكون إلا عند سلطان، ودعت بالشّراب، فشربت قدحا، ثم سكبت لي قدحا، فشربت، ثم قالت:
هذا أوان المذاكرة بالأخبار وأيام الناس، فاندفعت فقلت: بلغني أنه كان كذا، وكان رجل يقال له كذا، حتى أتيت على عدة أخبار حسان، فسرّت بذلك، وقالت: كثر تعجّبي أن يكون أحد من التجار يحفظ مثل هذا، وإنّما هذه أحاديث ملوك، فقلت: كان لي جار ينادم الملوك، فإذا تعطّل حضرت معه، فربّما حدّث بما سمعت، فأخذتها عنه. فقالت:
لعمري لقد أحسنت الحفظ، وما هذا إلا لقريحة جيّدة، وأخذنا في المذاكرة إذا سكتّ ابتدأت هي، وإذا سكتت ابتدأت أنا، حتى قطعنا عامة الليل، وبخور العود يعبق، وأنا في حالة لو توهمها المأمون لطار فرحا. فقالت: إنك من الرجال وضيء الوجه، بارع الأدب، وما بقي عليك إلا شيء واحد. قلت: وما هو؟ فقالت: لو كنت تترنّم ببعض الأشعار! فقلت: والله لقديما كلفت به ولم أرزقه، فأعرضت عنه، وفي قلبي منه حزازة، وكنت أحبّ أن أسمع في مجلسي هذا منه شيئا لتكمل ليلتي، قالت: كأنّك عرّضت بنا! قلت: والله ما هو تعريض، قد بدأت بالفضل وأنت جديرة باستتمامه. فأحضر عود بأمرها، فغنّت بصوت ما سمعت كحسنه، مع حسن أدائه، وجودة الضرب. فقلت: والله لقد أكمل الله فيك خلال الفضل وحباك بالكمال الراجح، والعقل الوافر، والأخلاق الرضيّة والأفعال السنية. قالت: هل تعرف هذا الصوت ومن غنّى فيه؟ قلت: لا والله، قالت الشعر: لفلان، وكان سببه كذا والغناء لإسحاق، قلت: وإسحاق هذا جعلت فداك في هذا الحال! قالت: بخ بخ! إسحاق بارع هذا الشأن، قلت: سبحان الله! لقد أعطى هذا ما لم يعطه أحد، قالت: فكيف لو سمعت هذا الصوت منه! فلم نزل كذلك حتى إذا انشقّ الفجر أقبلت عجوز كأنها داية، لها، قالت: أي بنيّة، إن الوقت قد حضر، فنهضت عند قولها، فقالت: مصاحبا، لتستر ما كنا فيه، فإن المجالس بالأمانات، فقلت: جعلت فداك، أفأحتاج إلى وصية في ذلك! وودعتها وجارية بين يديّ إلى باب الدار، ففتح لي، وخرجت إلى داري فصلّيت الصبح، ونمت.
فأنبهني رسول المأمون فسرت إليه، فلما رآني، قال: يا إسحاق، تشاغلنا عنك، فما كان حالك؟ قلت: اشتريت صبيّة وكنت معلّق القلب بها، فمضيت لها، وشربت معها ونمت، فقال: يتهيّأ مثل هذا، فهل لك فيما كنا فيه أمس! فقلت: وما يمنع من ذلك؟
فنهضت إلى مجلس أمس؛ فلما كان العشاء قال: لا ترم، فإني أجيئك ونهض، فتأمّلت