للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ما كنت فيه البارحة، فإذا هو شيء لا يصبر عنه إلا جاهل؛ فخرجت. فقال الغلمان: الله الله، فإنه أنكر علينا تخليتك، فوعدتهم أن آتي قبل أن يجيء، وأن خروجي لعذر، وفي الحين أرجع.

فنهضت إلى الزّبيل فجلست فيه، فرفع بي إلى موضع البارحة، فإذا هي قد طلعت، فقالت: لقد عاودت، فقلت: ولا أظنّ إلّا أني قد ثقّلت، فقالت: مادح نفسه يقرئك السلام، قلت: فهفوة فمنّي بالفضل. قالت: قد فعلنا، ولا تعد، فأخذنا في مثل الليلة السالفة من المذاكرة والمناشدة وغريب الغناء منها إلى الفجر.

فانصرفت إلى منزلي وصليت ونمت، فأنبهني رسول المأمون، فلمّا رآني قال:

أبيت إلا مكافأة لنا! فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما ذهبت إلى ذلك، ولكن ظننت أن أمير المؤمنين قد تشاغل عني بلذّته، وأغفل أمري، وجاء الشيطان، فذكّرني أمر تلك الملعونة، فبادرت قال: فما كان منك؟ قلت: قضيت الحاجة منها، قال: فقد انقضى ما كان بقلبك منها، وواحدة بواحدة، والبادي أظلم. قلت: بل أنا أظلم، وإليك المعذرة، قال: لا تثريب عليك، فهل لنا في مثل حالنا أمس؟ قلت: إي والله، فقمنا إلى موضعنا إلى الوقت، فقال: يا إسحاق ما عزمك؟ قلت: لا عذر لي، قال: فعزمت عليك لنجلس حتى أجيء، فإني عازم على الصّبوح، وقد نغّصت عليّ منذ يومين، قلت: فالليلة إن شاء الله، فما هو إلا أن غاب وجالت وساوسي، فلمّا تذكّرت ما كنت فيه البارحة هان عليّ ما يلحقني من سخطه؛ فوثبت مبادرا، فوثب إليّ جند الدار، وحبست، فقلت: الله الله! إني معلّق البال ببعض ما في منزلي، فقالوا: ما إلى تركك من سبيل، فلم أزل أرغّب هذا وأقبّل يد هذا، ووهبت خاتمي لهذا، وردائي لهذا، وخرجت أعد وحاسرا حتى وافيت الزّبيل، فقعدت فيه، فرفعت إلى موضعي، وأقبلت، فقالت: صديقنا! قلت: إي والله، قالت: أجعلتها دار مقام؟ فقلت: جعلت فداك! حتى الضيافة ثلاث، فإن رجعت فأنتم في حلّ من دمي. قالت: والله لقد أتيت بحجّة، ثم جلسنا في مثل تلك الحال، فلمّا قرب الوقت علمت أن المأمون لا بدّ أن يسألني، ولا يقنع مني إلا بشرح القصّة، فقلت لها: أراك ممّن يعجب بالغناء، ولي ابن عمّ أحسن منّي وجها، وأظرف قدّا، وأكثر أدبا، وأنا حسنة من حسناته، وهو أعرف خلق الله بغناء إسحاق الموصلي، قالت: طفيليّ وتقترح؟ قلت لها: أنت المحكمة، قالت: إن كان ابن عمك على ما تصف فما نكره معرفته، ثم جاء الوقت فنهضت فلم أصل إلى داري إلّا ورسل المأمون قد هجموا عليّ، وحملوني حملا عنيفا، فوجدته على كرسيّ وهو مغتاظ، فقال: يا إسحاق أخروجا عن الطاعة! قلت: لا والله قال: فما قصّتك وما هذا الانحراف؟ فأصدقني، قلت: في خلوة، فأومأ إلى من بين يديه فتنحّوا فحدثته الحديث وقلت له: قد وعدتها في أمرك، قال: قد أحسنت، ولولا ذلك لنكّلت بك، فقلت: قد سلّم الله، فأخذنا في لذتنا في ذلك اليوم، وهو لا يسمع مني غير حديثها، فلم يتمّ النهار إلا والمأمون معلّق القلب، فلما جاء

<<  <  ج: ص:  >  >>