الوقت سرنا وأنا أوصيه وأقول: تجنّب أن تظهرني بحضرتها، ودعني من نخوة الملك، وكن لي تبعا، وهو يقول: نعم ويلك! وإن قالت: غنّ كيف أصنع؟ قلت: أنا أدفعها عنك.
ثم سرنا إلى زبيلين فقعدنا فيهما، فرفعنا إلى الموضع، فأقبلت فسلّمت، فما تمالك إذ رآها أن بهت في حسنها، وقالت لي: والله ما أنصفت ابن عمك إذ لم ترفع منزلته، وكان قد قعد دوني، فقالت: ارتفع فديتك، أنت جديد، وهذا قد صار من أهل البيت، فنهض إلى صدر البيت، وأقبلت تذاكره وتناشده وتمازحه، وهو يظهر عليها في كل فن.
ثم أحضر النّبيذ فشربنا، وهي مقبلة عليه ومسرورة به، وهو أكثر، وأخذت العود فغنّت صوتا، وقالت: وابن عمك هذا من التجار؟ قلت: نعم، قالت: إنّكما لغريبان. فلما شرب المأمون ثلاثة أرطال داخله الفرح والطرب، ثم رأيته ينظر إليّ نظر الأسد إلى فريسته، فصاح: يا إسحاق، فنهضت وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: غنّ هذا الصوت، فلمّا علمت أنه الخليفة نهضت إلى كلّة مضروبة، فدخلتها، فلما فرغت من الصوت، قال: انظر من ربّ هذه الدار؟ فسألت عجوزا، فقالت: هو الحسن بن سهل، فقال؛ عليّ به، فغابت العجوز ساعة وإذا الحسن قد حضر، فقال له: ألك ابنة؟ قال:
نعم بوران، قال: فزوّجتها! قال: لا والله، قال: فأني أخطبها إليك، قال: هي أمتك، وأمرها إليك، قال: قد تزوّجتها على نقد ثلاثين ألفا نحملها إليك صبيحة يومنا، فإذا قبضت المال فاحملها إلينا، قال: نعم، ثم خرجنا.
فقال: يا إسحاق لا يقف على ما وقفت عليه أحد، فسترت الحديث إلى أن مات المأمون: فما اجتمع لأحد ما اجتمع لي في تلك الأربعة الأيام مجالسةالمأمون بالنهار، ومجالسة بوران بالليل، وو الله ما رأيت أحدا من الرجال في ملوكهم مثل المأمون، ولا شاهدت امرأة تقارب بوران فهما وعقلا، وما أظن أحدا وقف من العلوم على ما وقفت عليه.
وفي المسعودي: انحدر المأمون إلى فم الصّلح في شعبان سنة تسع ومائتين، وأملك بخديجة بنت الحسن بن سهل، ونثر الحسن في ذلك الإملاك ما لم ينثره قطّ ملك في جاهلية ولا إسلام، نثر على الهاشميين والقواد والكتّاب بنادق مسك، فيها رقاع بأسماء ضياع، وجوار وأسماء ديار ودوابّ وغير ذلك، فإذا وقعت البندقة بيد الرجل، فتحها فيجدها على قدر سعده، ثم ينثر بعد ذلك الدنانير والدراهم ونوافج المسك على عامة الناس، وأنفق على المأمون وعلى جميع قواده، فلما أراد المأمون الانصراف إلى مدينة السلام قال له: يا أبا محمد، سل حوائجك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أسألك أن تحفظ عليّ مكاني من قبلك، فأمر المأمون أن يحمل له خراج فارس والأهواز لسنة.
وذكر الحريريّ في الدّرة أن المأمون لمّا بنى على بوران، فرش له حصير منسوج