للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المقامة التاسعة والأربعون وهي السّاسانيّة

حكى الحارث بن همام قال: بلغني أنّ أبا زيد حين ناهز القبضة، وابتزّه قيد الهرم النّهضة، أحضر ابنه، بعد ما استجاش ذهنه، وقال له: يا بني إنّه قد دنا ارتحالي من الفناء، واكتحالي بمرود الفناء، وأنت بحمد الله وليّ عهدي، وكبش الكتيبة السّاسانيّة من بعدي. ومثلك لا تقرع له العصا، ولا ينبّه بطرق الحصا؛ ولكن قد ندب إلى الإذكار، وجعل صيقلا للأفكار، وإنّي أوصيك بما لم يوص به شيث الأنباط، ولا يعقوب الأسباط؛ فاحفظ وصيّتي، وجانب معصيتي، واحذ مثالي، وافقه أمثالي، فإنّك إن استرشدت بنصحي، واستصبحت بصبحي، أمرع خانك، وارتفع دخانك، وإن تناسيت سورتي، ونبذت مشورتي، قلّ رماد أثافيك، وزهد أهلك ورهطك فيك.

***

ناهز: قارب. القبضة، أراد بها ثلاثا وتسعين سنة، لأنك إذا قيل لك: اعقد في يديك ثلاثا وتسعين قبضت أصابعك كلها وشددت عليها الإبهام، والمعنى أنه قارب المائة الّتي ليس في العيش بعدها منفعة، والشعراء يضمّنونها أشعارهم إذا وصفوا البخيل بقبض الكف، قال الخليل بن أحمد: [المتقارب]

وكفّ عن الخير مقبوضة ... كما قبضت مائة سبعه (١)

وقال: [الوافر]

فما تسعون تخفرها ثلاث ... يضمّ حسابها رجل شديد

بكفّ خرقة جمعت لوجء ... بأنكد من عطائك يا يزيد

وابتزّه: سلبه. الهرم: كبر السّن. النهضة: القيام إلى ما يريد.

ودخل هشام بن عبد مناف وقد أسنّ على فتية من قومه فقاموا إليه إجلالا، وأجلسوه في أرفع موضع، فقال: بارك الله فيكم، إن بني مرّة كانوا إذا شاخ عندهم الرجل قيّدوه وقالوا له: ثب، أحبّوه. وقالوا: فيك بقية، وإن لم يثب قالوا:

ليس في هذا منفعة فقتلوه، وقال ابن الرومي: [السريع]


(١) البيت للخليل بن أحمد الفراهيدي في لسان العرب (شرع)، وتهذيب اللغة ١/ ٤٢٧، وتاج العروس (شرع)، وكتاب العين ١/ ٢٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>