فإن كانت لله عز وجل ففرّقوها على عباده، وإن كانت لهم فلا تحتبسوها عنهم، وإن كانت لكم فتصدّقوا بها عليهم؛ فإن الله يجزي المتصدّقين، ولا يضيع أجر المحسنين؛ وإنّ الوالي من الرعيّة كالروح من الجسد، لا حياة له إلا به.
فقال هشام: ما ترك الغلام في واحدة من الثلاث عذرا، وأمر بمائة ألف دينار ففرّقت في أهل البادية، وأمر له بمائة ألف درهم: فقال: ارددها في جائزة العرب، فما لي حاجة في خاصّة نفسي دون عامّة المسلمين.
أحمد بن يحيى: حدّثني السدريّ أن نميرا غزت حنيفة فغنمت، وتبعتهم حنيفة فهزموهم، وردّوا غنائمهم، فلقيت غلاما منهم، فقلت: كيف صنع قومك؟ فقال:
تبعوهم والله، وقد أحقبوا كل جمالية خيفانة، فما زالوا يخصفون أخفاف المطيّ بحوافر الخيل حتى لحقوهم بعد ثالثة. فجعلوا المرّان أرشية الموت، فاستقوا بها أرواحهم.
وهذا كلام فصيح كثير الاستعارة. أحقبوا: أردفوا بموضع الحقيبة، والجمالية المرأة الجميلة: وخصف: خرز، وتشبيه المرّان- وهي الأرماح- بالأرشية وهي الحبال حسن.
وجلس خالد القسريّ يوما للشعراء على الفرات، فأنشدوه وأخذوا الجوائز وانصرفوا، ولم يبق إلّا غلام، فقال خالد: يا غلام، أشاعر أنت؟ قال: لا ولكني متعلّم، وقد قلت شيئا، قال: هات، فأنشأ يقول:[الطويل]
ألا هل ترى موج الفرات كأنّه ... جبال سرور قد أتينك عوّما
وما ذاك من عاداته غير أنه ... رأى شيمة من جاره فتعلّما
وكان بقي على البساط فضلة مال، فقال له خالد: اطو البساط بما عليه، فأخذه الغلام بما عليه.
ورأى بعض الملوك غلاما يسوق حمارا، وهو يعنف عليه، فقال: ارفق يا غلام، فقال: أيها الملك، في الرفق مضرّة عليه، قال: وما مضرّته؟ قال: يطول طريقه، ويشتدّ جوعه، وفي العنف عليه إحسان إليه، يخفّ حمله، ويطول أكله. فأعجب به، وقال: قد أمرت لك بألف درهم، قال: رزق مقدور، وواهب مأجور. قال: وقد أمرت بإثبات اسمك في حشمي، قال: كفيت مئونة، ورزقت بها معونة، قال: لولا صغرك لاستوزرتك، قال: لم يعدم الفضل من رزق العقل، قال: أفتصلح لذلك؟ قال: إنما يكون الحمد أو الذمّ بعد التجربة، ولا يعرف الإنسان نفسه حتى يبلوها، فاستوزره فوجده ذا رأي صائب.
دخل الفرزدق- وهو غلام يافع- على سعيد بن العاص، وقد أنشد أشعارا والحطيئة حاضر فأنشده:[الوافر]