فقال: أحبّ أن تدخل معي، فدخلنا فإذا الحسن قبالة القبلة يقول: يا بن آدم، لم تكن فكوّنت، وسألت فأعطيت، وسئلت فمنعت، فبئس ما صنعت! ثم يذهب فيرجع بعيد ذلك حتى أعادها مرارا، فقال لي الشعبيّ: يا هذا انصرف فإن الشيخ في غير ما نحن فيه.
ولما دخل على الحجّاج فقال له: ما تقول في عليّ وعثمان؟ قال: أقول فيهما ما قال من هو خير مني بين يدي من هو شرّ منك، قال: ومن ذلك؟ قال: موسى وفرعون حيث قال له فرعون: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ [طه: ٥١].
الشعبي قال: قدمنا على الحجاج في البصرة في جماعة من قرّاء الشام والعراق في يوم صائف شديد الحرّ، وهو في آخر ثلاثة أبيات، فدخلنا الأوّل فإذا فيه الثلج والماء قد أرسل فيه، وفي الثاني أكثر وفي الثالث أكثر، والحجاج قاعد على سريره وعنبسة بن سعيد إلى جانبه فجلسنا على الكراسيّ، ودخل الحسن آخر من دخل، فقال الحجاج:
مرحبا بأبي سعيد! خلع قميصك، فجعل الحسن يعالج زرّ القميص فأبطأ به، فطأطأ له الحجاج رأسه تلطفا به حتى حلّه، وجاءت جارية بدهن فوضعته على رأس الحسن وحده، فقال له الحجاج: يا أبا سعيد، ما لي أراك منهوك الجسم، لعلّ ذلك من قلة نفقة وسوء ولاية! ألا نأمر لك بنفقة توسّع بها على نفسك، وخادم لطيف! فقال: إني من الله تعالى لفي سعة ونعمة وإني منه لفي عافية، ولكن الكبر والحرّ، فأقبل الحجاج على عنبسة، وقال: لا والله، بل العلم بالله والزهد فيما نحن فيه، فلم يسمعها الحسن، وسمعتها أنا لقربي من عنبسة، وجعل الحجاج يسأله حتى ذكر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مرضاة له، وفرقا من شرّه، والحسن عاضّ على إبهامه، فقال له: ما لي أراك ساكتا؟ فقال: وما عسىأن أقول: فقال: أخبرنا برأيك في أبي تراب، قال: إني سمعت الله عز وجل يقول: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [البقرة: ١٤٣] فعليّ ممّن هدى الله، ومن أهل الإيمان وابن عمّ نبي الله صلى الله عليه وسلم وختنه على بنته، أحبّ الناس إليه، وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله عز وجل، لن تستطيع أنت ولا أحد من الناس يحظرها عليه، ولا يحول بينه وبينها. فتغيّر وجه الحجاج وقام مغضبا عن سريره، ودخل بيتا خلفه وخرجنا وأخذت بيد الحسن، فقلت: يا أبا سعيد، أغضبت الأمير، وأوغرت صدره، فقال: إليك عني يا عامر، ألست شيطانا من الشياطين إذ توافقه في رأيه! ألا صدقت إذ سئلت أو سكتّ فسلمت! فقلت: قلتها والله، وأنا أعلم بما فيها، قال الحسن: فذلك أعظم في الحجّة عليك، وأشدّ في التّبعة. ثم خرجت إلى الحسن التّحف والطّرف، وكانت له المنزلة واستخفّ بنا وجفانا، فكان أهلا لما أتى إليه، وكنّا أهلا لما أتى إلينا، فما رأيت مثل الحسن بين العلماء إلا مثل الفرس العربيّ فيما بين المقارف، وما شهدنا قط مشهدا إلّا برز علينا بفضله، وقال لله، وقلنا موافقة للولاة، وكان يقول: جدّدوا هذه الأنفس فإنها