أخبّر أخبار القرون الّتي مضت ... أنوء كأنّي كلّما قمت راكع
فلما بلغ ثلاثين ومائة حضرته الوفاة، فقال: [الطويل]
تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلّا من ربيعة أو مضر (١)
فقوما فقولا بالّذي أنا أهله ... ولا تخمشا خدّا ولا تحلقا شعرا
وقولا هو المرء الّذي لا صديقة ... أضاع ولا خان الخليل ولا غدر
إلى الحول ثم اسم السّلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
قال الشعبيّ: فلقد رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعا أن يعيشها.
وقال الحريري في الدّرّة: حدثني أحد شيوخي أن ليلى الأخيليّة كانت تتكلم بلغة بهراء، فتكسر حرف المضارعة، فتقول: «أنت تعلم» فاستأذنت يوما على عبد الملك بن مروان وبحضرته الشعبيّ، فقال: أتأذن لي يا أمير المؤمنين في الغضّ منها؟ فقال: افعل، فلما استقرّ بها المجلس قال لها الشعبيّ: يا ليلى، ما بال قومك لا يكتنون! فقالت:
ويحك أما نكتني- بكسر النون- فقال: لا والله ولو فعلت لاغتسلت، فخجلت عند ذلك، واستغرق عبد الملك في الضحك.
الأصمعي: وجّه عبد الملك الشعبيّ إلى ملك الروم في بعض الأمور، فاستكبر الشعبيّ، فقال له: من أهل بيت الملك أنت؟ قال: لا فلما أراد الرجوعإلى عبد الملك حمّله رقعة لطيفة، وقال له: إذا بلّغت صاحبك جميع ما يحتاج إلى معرفته من ناحيتنا فادفع إليه هذه الرقعة، فلمّا رجع إلى عبد الملك ذكر له ما احتاج إلى ذكره، ونهض.
فلما خرج ذكر الرقعة، فرجع فقال: يا أمير المؤمنين إنّه حمّلني إليك رقعة أنسيتها، فدفعها إليه ونهض فقرأها عبد الملك، وأمر بردّه فقال: أعلمت ما في الرقعة؟ قال: لا، قال: فيها عجبت من العرب كيف ملّكت غير هذا! أفتدري لم كتب إليّ بهذا؟ قال: لا، قال: حسدني عليك، فأراد أن يغريني بقتلك، فقال الشّعبيّ: لو رآك يا أمير المؤمنين ما استكبرني. فبلغ ذلك ملك الروم، فذكر عبد الملك وقال: لله أبوه! والله ما أردت إلا ذلك.
وكان الشعبيّ خرج مع عبد الرحمن بن الأشعث على الحجّاج، فلما هزم عبد الرحمن أتي به موثقا مع الأسرى، وكان حكم الحجاج فيهم: من أقرّ أنه كافر أبقاه، ومن أقرّ أنه مسلم قتله. قال: فلما جئت باب القصر لقيني يزيد بن مسلم كاتبه، فقال: إنا لله
(١) الأبيات في ديوان لبيد ص ٢١٣، والبيت الأول في الأغاني ١٥/ ٣٠٥، وأمالي المرتضى ١/ ١٧١، ٢/ ٥٥، والبيتان الثاني والثالث في لسان العرب (عذر)، وتهذيب اللغة ٢/ ٣٠٦، وتاج العروس (عذر)، والبيت الرابع في الأشباه والنظائر ٧/ ٩٦، والأغاني ١٣/ ٤٠، والخصائص ٣/ ٢٩، والعقد الفريد ٢/ ٧٨.