نفسي منه وكان لي فضل فكر، صرفته إلى جهة وددت أني كنت صرفته إلى غيرها. وما علمت أني كذبت متعمّدا قطّ، وأرجو أن يغفر الله لي التأوّل.
واجتمع أدباء من كلّ أفق، فجعل أهل بلد يرفعون علماءهم، ويقدّمونهم حتى جرى ذكر الخليل، فلم يبق أحد إلا قال: الخليل أذكى العرب، وهو مفتاح العلوم ومصرّفها.
النّضر: ما رأى الراءون مثل الخليل، ولا رأى الخليل مثل نفسه. وكان أشعث الرأس، شاحب اللون، قشف الهيئة، متخرّق الثياب، متقلّع القدمين، مغمورا في الناس لا يعرف.
محمد بن الفضل: كان بالبصرة رجل يعطي دواء لظلمة البصر، فينتفع به الناس، فمات فأضرّ ذلك بمن كان يستعمله، فذكر للخليل فقال: أله نسخة؟ فقالوا: لم نجدها، قال: فهل كان له آنية يعمله فيها؟ قالوا: نعم، إناء يجمع فيه أخلاطا، قال: فجيئوني به، فجعل يتشمّمه، ويخرج نوعا نوعا حتى أخرج خمسة عشر نوعا، ثم سأل عن جمعها ومقاديرها فعرفه من كان يعالج مثله فعمله، وأعطاه الناس، فانتفعوا به مثل تلك المنفعة.
ثم وجدت النسخة في كتب الرجل، فإذا فيها ستة عشر خلطا، فلم يغفل إلا عن خلّط واحد.
وكتب إليه ملك اليونان كتابا باليونانية، فخلا به شهرا حتى فهمه، فقيل له في ذلك، قال: قلت: لا بدّ أن يفتتح الكتاب باسم الله تعالى وما أشبهه، فبنيت أوّل الحروف على ذلك حتى انقاست لي.
النّضر بن شميل. جاء رجل من حلقه يونس، فسأل الخليل عن شيء، فأطرق يفكّر، فقالوا له: ما هذا مما يحتاج إلى فكر يفكّر فيه! فقال لهم: فما الجواب عندكم؟
قالوا: كذا، قال: فإنه يزيدكم في الجواب كذا، قالوا: يقول كذا، يقول: كذا، فانقطعوا، فقال: ما أجبت بجواب قطّ إلا وأنا أعرف آخر ما عليّ فيه.
وكان يخرج من منزله فلم يشعر إلا وهو في الصحراء، ولم يردها لشغله بالفكر.
وقال النضر: سمعت الخليل يقول: الأيام ثلاثة: فمعهود وهو أمس، ومشهود وهو اليوم، وموعود وهو غد.
وقال الخليل: إذا نسخ الكتاب ثلاث نسخ ولم يعارض به تحوّل بالفارسية.
ورأى مع رجل دفترا وفيه خطّ دقيق، فقال لصاحبه: أيست يا هذا من طول عمرك! .
وقال: إن لم تعلّم الناس ثوبا فعلّمهم لتدرس بتعليمهم علمك، ولا تجزع من تفرّع السؤال، فإنّه ينبّهك على علم ما لم تعلم.