وعذّب الحبالى، حتى يطرحن ما في بطونهنّ، حتى كاد يفنيهم، فقيل له: إنما هم خولك، وإنك إن تفنهم ينقطع النسل. فأمر بقتل الغلمان عاما ويستحيون عاما، فولد هارون في السنة التي يستحيون فيها. وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها.
فلما وضعته أمه حزنت لشأنه، فأوحى الله إليها: أن أرضعيه، فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ- وهو النيل- ولا تخافي ولا تحزني. فعملت تابوتا وجعلته فيه، وألقته في اليمّ، وقالت لأخته: قصّيه، أي اقتفي أثره، فحمله الماء حتى أدخله بين أشجار تحت قصر فرعون، فخرج جواري فرعون يغتسلن، فوجدن التابوت، فأدخلنه إلى آسية امرأة فرعون، وهي بنت مزاحم، إسرائيليّة، فكشفت عنه التابوت، فرأته. فرحمته وأخذته، وأخبرت به فرعون، فأراد أن يذبحه، وخشي أن يكون المولود الذي حذّر منه، فلم تزل به آسية حتى تركه لها، وذلك قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: ٨]، فاللام من لِيَكُونَ للعاقبة، ولم يكن لفرعون ولد، فاتّخذه له ولدا، فارتادوا له المرضعات، فلم يقبل ثدي واحدة منهن، ولما غاب أمره عن أمه، كاد قلبها يطير وجدا عليه، فبعثت أخته كأنّها تلتمس رضاعه، فلما رأت أسفهم عليه حيث لا يقبل على مرضعة- وذلك قوله تعالى وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص: ١٠] قالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم؟ فقالوا لها: دلّينا على ذلك، فذهبت فجاءت بأمه.
فلما رأته كادت لشدّة حبّها فيه، وفرحها به أن تقول: هو ابني، وتفتضح، فعصمها الله من ذلك، وذلك قوله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها [القصص: ١٢]، فأعطته ثديها، فأخذ يرضعه. فربّته في قصر فرعون، فلما تحرّك عرضته آسية على فرعون، فلما أخذه مدّ موسى يده إلى لحيته فنتفها، فقال فرعون: عليّ بالذبّاحين، فإنما هو هذا! فقالت آسية: قرّة عين لي ولك، لا تقتلوه فإنه صبيّ لا يعقل، ودعت له بحمر وياقوت لتختبره، فطرح جبريل عليه السلام يده في النار وأخذ قطعة منها، فوضعها موسى عليه السلام في فمه، فأحرقته. فتكره فرعون، فكبر في حجره. فلمّا ترعرع تبنّاه، فكان يركب مراكبه ويلبس ملابسه، ويدعى ابن فرعون.
ثم إن موسى عليه السلام أخبر أن فرعون قد ركب، فركب أثره، فأدركه ببلد منف، فدخلها وقد أحليت لفرعون وليس في طرقها أحد، فرأى إسرائيليامع قبطيّ يقتتلان، فاستغاثه الإسرائيليّ، فوكز القبطيّ فقضى عليه، فكان من قصته معهما ما قص الله تعالى في كتابه، حتى خرج خائفا يترقب إلى مدين.
وأما رجوعه منها إلى فرعون بأنه رسول الله إلى أن غرق فرعون في البحر وجنوده، فمذكور في الثامنة عشرة.