للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان يناظر محمد بن داود، فقال له ابن داود يوما وقد أكثر عليه السؤال: أبلعني ريقي، فقال له: قد أبلعتك الدّجلة والفرات.

وقال له مرة: أمهلني ساعة، فقال: قد أمهلتك من الساعة إلى أن تقوم الساعة.

وقال له ابن داود يوما: أكلّمك من الرّجل وتجيبني من الرأس! فقال له: كذلك البقر إذا حفيت أظلافها، وهنت قرونها.

واجتمع أبو العباس بن سريج وأبو بكر بن داود الأصبهانيّ في مجلس عيسى بن الجراح الوزير، فتناظرا في الإبلاء، فقال ابن سريج: أنت بقولك: من كثرت لحظاته، دامت حسراته، أبصر منك في الكلام في الإيلاء، فقال له ابن داود: لئن قلت ذلك، فإني أقول: [الطويل]

أنزّه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرّما

وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنّه ... يصبّ على الصّخر الأصمّ تهدّما

وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي ردّه لتكلّما

رأيت الهوى دعوى من الناس كلّهم ... فلست أرى حبّا صحيحا مسلما

وقال له ابن سريج: بم تفتخر؟ ولو شئت قلت: [الكامل]

ومساهر بالغنج من لحظاته ... قد بتّ أمنعه لذيذ سناته

أصبو لحسن كلامه وحديثه ... وأكرّر اللحظات في وجناته

حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولّي بخاتم ربّه وبراته

فقال له أبو بكر: أصلح الله الوزير! يحفظ عليه ما قال، حتى يقيم عليه شاهدين عدلين، أنه ولّى بخاتم ربه وبراءته، فقال له ابن سريج: فيلزمني في هذا ما يلزمك في قولك: [الطويل]

* وأمنع نفسي أن تنال محرّما*

فضحك الوزير، وقال: لقد جمعتما ظرفا ولطفا وعلما وفهما.

اشتملت هذه الحكاية على أنّ هذين الرجلين العالمين على اشتهارهما بالعلم والفضل والدّين كانا يرتاحان إلى التعشّق على سبيل التظرّف والتزام التعفّف على ما يليق ويشكل بمنصبهما؛ وإذا كان التّعشّق بشرط العفاف، فإنّما يزيد الرّجل الفاضل رقّة طبع، وحلاوة شمائل.

وقال ابن سريج في مرضه الذي مات فيه: أريت في المنام البارحة كأنّ قائلا يقول:

هذا ربّك يخاطبك، فسمعته يقول: ماذا أجبتم المرسلين؟ فقلت: بالإيمان والتّصديق، قال: فقيل: ماذا أجبتم المرسلين؟ فوقع في نفسي أنه يراد مني زيادة في الجواب،

<<  <  ج: ص:  >  >>