الجيوب، حتى ماحها من دينه الامتياح، وارتاح لرفدها من لم نخله يرتاح، فلمّا افعوعم جيبها تبرا، وأولاها كلّ منّا برّا، تولّت يتلوها الأصاغر، وفوها بالشّكر فاغر، فاشرأبّت الجماعة بعد ممرّها، إلى سبرها، لتبلو مواقع برّها. فكفلت لهم باستنباط السّرّ المرموز، ونهضت أقفو أثر العجوز، حتى انتهيت إلى سوق مغتصّة بالأنام، مختصّة بالزّحام، فانغمست في الغمار، وامّلست من الصّبية الأغمار، ثم عاجت بخلوّ بال، إلى مسجد خال، فأماطت الحلباب، ونفضت النّقاب، وأنا ألمحها من خصاص الباب، وأرقب ما ستبدي من العجاب.
***
قوله: «صدعت»: شقّت: أعشار: قطع: خبايا: ما خبّئ فيها من الدراهم.
ماحها: أعطاها. دينه: عادته. الامتياح: طلب المعروف، يريد مشيخة الشعراء الذين قد مرّ ذكرهم، وعيش الشعراء إنما هو من الاستجداء والطلب، ومعلوم أنه من كانت عادته أن يأخذ لا يعطي في الغالب شيئا، ولذلك قال: من لم نخله يرتاح، أي من لم نحسب أنه يهتزّ للعطاء، وقد ارتاح، إذا اهتزّ للكرم والعطاء ولذلك قال حبيب: [الكامل]
لم يخلق الرّحمن أحمق لحية ... من سائل يرجو النّدى من سائل
وقال آخر: [الطويل]
لموت الفتى خير من الفقر للفتى ... وللموت خير من سؤال بخيل
لعمرك ما شيء لوجهك قيمة ... فلا تلق مخلوقا بوجه ذليل
ولا تسألن من كان يسأل مرّة ... فللموت خير من سؤال سئول
وحدّث عيسى بن عمر النحويّ، قال: قدمت من سفر، فدخل عليّ ذو الرّمة الشاعر، فعرضت عليه أن أعطيه شيئا، فقال: أنا وأنت نأخذ ولا نعطي.
ومدح أبو الشمقمق مروان بن أبي حفصة فقال له: يا أبا الشمقمق، أنت شاعر وأنا شاعر، وغايتنا جميعا السؤال.
وكان بشار يعطيه في كل سنة مائتي درهم، فأتاه مرّة، فقال: هلمّ الجزية يا أبا معاذ، فقال: ويحك! أجزية هي؟ قال: هو ما تسمع، فقال له بشار يمازحه: أنت أفصح منّي؟ قال: لا، قال: فأعلم؟ قال: لا، قال: فأشعر؟ قال: لا، قال: فلم أعطيك؟ قال:
لئلا أهجوك، قال: إن هجوتني هجوتك، قال أبو الشمقمق: أو كذا هو؟ اسمع: [الرجز]
إني إذا ما شاعر هجانيه ... أدخلت في است أمّه علانيه
بشار يا بشار ... وأراد أن يقول: يا بن الزانية، فأمسك بشّار بفمه، وقال: أراد والله